ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جل وعلا (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية). وقوله عز وجل (وإن نشأ نغرقهم) يعني الذين في السفن (فلا صريخ لهم) أي فلا مغيث لهم مما هم فيه (ولا هم ينقذون) أي مما أصابهم. (إلا رحمة منا) وهذا استثناء منقطع تقديره ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر ونسلمكم إلى أجل مسمى ولهذا قال تعالى: (ومتاعا إلى حين) أي إلى وقت معلوم عند الله عز وجل.
وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلل مبين (47) يقول تعالى مخبرا عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) قال مجاهد من الذنوب وقال غيره بالعكس (لعلكم ترحمون) أي لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه. واكتفى عن ذلك بقوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) أي على التوحيد وصدق الرسل (إلا كانوا عنها معرضين) أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها. وقوله عز وجل (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله) أي وإذا أمروا بالانفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين (قال الذين كفروا للذين آمنوا) أي عن الذين آمنوا من الفقراء أي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالانفاق محاجين لهم فيما أمروهم به (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) أي وهؤلاء الذين أمرتمونا بالانفاق عليهم لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم (إن أنتم إلا في ضلال مبين) أي في أمركم لنا بذلك قال ابن جرير ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفار حين ناظروا المؤمنين وردوا عليهم فقال لهم (إن أنتم إلا في ضلال مبين) وفي هذا نظر والله أعلم.
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) ما ينظرون إلا صيحة وحدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50) يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم (متى هذا الوعد) (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) قال الله عز وجل (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهذه والله أعلم نفخة الفزع ينفخ في الصور نفخة الفزع والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم فبينما هم كذلك إذ أمر الله عز وجل إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدها فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتا ورفع ليتا وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم ولهذا قال تعالى: (فلا يستطيعون توصية) أي على ما يملكونه الامر أهم من ذلك (ولا إلى أهلهم يرجعون) وقد وردت ههنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق التي تموت بها الاحياء كلهم ما عدا الحي القيوم ثم بعد ذلك نفخة البعث.
ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52) إن كانت إلا صيحة وحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54)