بالمعروف وينهون عن المنكر ثم لما بدلوا وحرفوا وأولوا سلبوا ذلك المقام وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه فلا عملا صالحا ولا اعتقادا صحيحا ولهذا قال تعالى (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب) قال قتادة وسفيان لما صبروا عن الدنيا وكذلك قال الحسن بن صالح قال سفيان: هكذا كان هؤلاء ولا ينبغي للرجل أن يكن إماما يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا قال وكيع قال سفيان لا بد للدين من العلم كما لا بد للجسد من الخبز وقال ابن بنت الشافعي قرأ أبي على عمي أو عمي على أبي سئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ألم تسمع قوله (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) قال لما أخذوا برأس الامر صاروا رؤوسا قال بعض العلماء بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ولهذا قال تعالى (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الامر) الآية كما قال هنا (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) أي من الاعتقادات والأعمال.
أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مسكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون (26) أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعمهم وأنفسهم أفلا يبصرون (27) يقول تعالى أو لم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من قويم السبل فلم يبق منهم من باقية ولا عين ولا أثر (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) ولهذا قال (يمشون في مساكنهم) أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين فلا يرون فيها أحدا ممن كان يسكنها ويعمرها ذهبوا منها (كأن لم يغنوا فيها) كما قال (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) وقال (وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض - إلى قوله - ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ولهذا قال ههنا (إن في ذلك لآيات) أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل ونجاة من آمن بهم لآيات وعبرا ومواعظ ودلائل متناظرة (أفلا يسمعون) أي أخبار من تقدم كيف كان أمرهم وقوله تعالى (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز) يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال إلى الا راضي المحتاجة إليه في أوقاته ولهذا قال تعالى (إلى الأرض الجرز) وهي التي لا نبات فيها كما قال تعالى (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) أي يبسا لا تنبت شيئا وليس المراد من قوله (إلى الأرض الجرز) أرض مصر فقط بل هي بعض المقصود وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست هي المقصودة وحدها ولكنها مرادة قطعا من هذه الآية فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرا لتهدمت أبنيتها فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة وفيه طين أحمر فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضا لينبت الزرع فيه فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم وطين جيد من غير أرضهم فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبدا وقال ابن لهيعة عن قيس بن حجاج عمن حدثه قال: لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص وكان أميرا بها حين دخل بؤونة من أشهر العجم فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها قال وما ذاك؟ قالوا إذا كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في الاسلام إن الاسلام يهدم ما كان قبله فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلت وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النيل فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر. أما بعد فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري وإن كان الله الواحد هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك.