الأول: أن الإيتاء يحتمل أن يكون واجبا وأن يكون تفضلا، وأما الإعطاء فإنه بالتفضل أشبه فقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يعني هذه الخيرات الكثيرة وهي الإسلام والقرآن والنبوة والذكر الجميل في الدنيا والآخرة، محض التفضل منا إليك وليس منه شيء على سبيل الاستحقاق والوجوب، وفيه بشارة من وجهين أحدهما: أن الكريم إذا شرع في التربية على سبيل التفضل، فالظاهر أنه لا يبطلها، بل كان كل يوم يزيد فيها الثاني: أن ما يكون سبب الاستحقاق، فإنه يتقدر بقدر الاستحقاق، وفعل العبد متناه، فيكون الاستحقاق الحاصل بسببه متناهيا، أما التفضل فإنه نتيجة كرم الله غير متناه، فيكون تفضله أيضا غير متناه، فلما دل قوله: * (أعطيناك) * على أنه تفضل لا استحقاق أشعر ذلك بالدوام والتزايد أبدا.
فإن قيل: أليس قال: * (آتيناك سبعا من المثاني) *؟ قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن الإعطاء يوجب التمليك، والملك سبب الاختصاص، والدليل عليه أنه لما قال سليمان: * (هب لي ملكا) * فقال: * (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك) * ولهذا السبب من حمل الكوثر على الحوض قال: الأمة تكون أضيافا له، أما الإيتاء فإنه لا يفيد الملك، فلهذا قال في القرآن: * (آتيناك) * فإنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئا منه الثاني: أن الشركة في القرآن شركة في العلوم ولا عيب فيها، أما الشركة في النهر، فهي شركة في الأعيان وهي عيب الوجه الثاني: في بيان أن الإعطاء أليق بهذا المقام من الإيتاء، هو أن الإعطاء يستعمل في القليل والكثير، قال الله تعالى: * (وأعطى قليلا وأكدى) * أما الإيتاء، فلا يستعمل إلا في الشيء العظيم، قال الله تعالى: * (وآتاه الله الملك ولقد آتينا داود منا فضلا) * والأتي السيل المنصب، إذا ثبت هذا فقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يفيد تعظيم حال محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه أحدها: يعني هذا الحوض كالشئ القليل الحقير بالنسبة إلى ما هو مدخر لك من الدرجات العالية والمراتب الشريفة، فهو يتضمن البشارة بأشياء هي أعظم من هذا المذكور وثانيها: أن الكوثر إشارة إلى الماء، كأنه تعالى يقول: الماء في الدنيا دون الطعام، فإذا كان نعيم الماء كوثرا، فكيف سائر النعيم وثالثها: أن نعيم الماء إعطاء ونعيم الجنة إيتاء ورابعها: كأنه تعالى يقول: هذا الذي أعطيتك، وإن كان كوثرا لكنه في حقك إعطاء لا إيتاء لأنه دون حقك، وفي العادة أن المهدي إذا كان عظيما فالهدية وإن كانت عظيمة، إلا أنه يقال: إنها حقيرة أي هي حقيرة بالنسبة إلى عظمة المهدي له فكذا ههنا وخامسها: أن نقول: إنما قال فيما أعطاه من الكوثر أعطيناك لأنه دنيا، والقرآن إيتاء لأنه دين وسادسها: كأنه يقول: جميع ما نلت مني عطية وإن كانت كوثرا إلا أن الأعظم من ذلك الكوثر أن تبقى مظفرا وخصمك أبتر، فإنا أعطيناك بالتقدمة هذا الكوثر، أما الذكر الباقي والظفر على العدو فلا يحسن إعطاؤه إلا بعد التقدمة بطاعة تحصل منك: * (فصل لربك وانحر) * أي فاعبد لي وسل الظفر بعد العبادة فإني أوجبت على كرمي أن بعد كل فريضة دعوة مستجابة، كذا روى في الحديث المسند، فحينئذ أستجيب فيصير