كان يخاف من فرعون وعسكره. وأما ههنا فإن محمدا عليه السلام لما كان مبعوثا إلى جميع أهل الدنيا، كان كل واحد من الخلق، كفرعون بالنسبة إليه، فدبر تعالى في إزالة هذا الخوف الشديد تدبيرا لطيفا، وهو أنه قدم على تلك السورة، هذه السورة فإن قوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يزيل عنه ذلك الخوف من وجوه أحدها: أن قوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * أي الخير الكثير في الدنيا والدين، فيكون ذلك وعدا من الله إياه بالنصرة والحفظ، وهو كقوله: * (يا أيها النبي حسبك الله وقوله: * (والله يعصمك من الناس) *) * وقوله: * (إلا ينصروه فقد نصره الله) * ومن كان الله تعالى ضامنا لحفظه، فإنه لا يخشى أحدا وثانيها: أنه تعالى لما قال: * (إنا أعطيناك الكوثر) * وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة، والخلف في كلام الله تعالى محال، فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات، فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه، ولا يقهرونه، ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة وثالثها: أنه عليه السلام لما كفروا وزيف أديانهم ودعاهم إلى الإيمان اجتمعوا عنده، وقالوا: إن كنت تفعل هذا طلبا للمال فنعطيك من المال ما تصير به أغنى الناس، وإن كان مطلوبك الزوجة نزوجك أكرم نسائنا، وإن كان مطلوبك الرياسة فنحن نجعلك رئيسا على أنفسنا، فقال الله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) * أي لما أعطاك خالق السماوات والأرض خيرات الدنيا والآخرة، فلا تغتر لما لهم ومراعاتهم ورابعها: أن قوله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة، فهذا يقوم مقام قوله: * (وكلم الله موسى تكليما) * بل هذا أشرف لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى، بل يفيده قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس، فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس، فقدم هذه السورة على سورة: * (قل يا أيها الكافرون) * حتى يمكنه الاشتغال بذلك التكليف الشاق والإقدام على تكفير جميع العالم، وإظهار البراءة عن معبودهم فلما امتثلت أمري، فانظر كيف أنجزت لك الوعد، وأعطيتك كثرة الأتباع والأشياع، إن أهل الدنيا يدخلون في دين الله أفواجا، ثم إنه لما تم أمر الدعوة وإظهار الشريعة، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن، وذلك لأن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورا على الدنيا، أو يكون طالبا للآخرة، أما طالب الدنيا فليس له إلا الخسار والذل والهوان، ثم يكون مصيره إلى النار، وهو المراد من سورة تبت، وأما طالب الآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات، وقد ثبت في العلوم العقلية أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين: منهم من عرف الصانع، ثم توسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته، وهذا هو الطريق الأشرف الأعلى، ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور.
ثم إنه سبحانه ختم كتابه الكريم بتلك الطريق التي هي أشرف الطريقين، فبدأ بذكر صفات