والمرتبة الثانية: من المراتب التي يجب على الإنسان كونه عالما بها أن يعرف ما هو مهم له في زمان حياته في الدنيا، وما ذلك إلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية، وهذه المرتبة لها بداية ونهاية. أما بدايتها فالاشتغال بالعبادات الجسدانية والروحانية. أما العبادات الجسدانية، فأفضل الحركات الصلاة، وأكمل السكنات الصيام، وأنفع البر الصدقة.
وأما العبادة الروحانية فهي: الفكر، والتأمل في عجائب صنع الله تعالى في ملكوت السماوات والأرض، كما قال تعالى: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) * (آل عمران: 191) وأما نهاية هذه المرتبة، فالانتهاء من الأسباب إلى مسببها، وقطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات، وتوجيه حدقة العقل إلى نور عالم الجلال، واستغراق الروح في أضواء عالم الكبرياء، ومن وصل إلى هذه الدرجة رأى كل ما سواه مهرولا تائها في ساحة كبريائه هالكا فانيا في فناء سناء أسمائه. وحاصل الكلام: أن أول درجات السير إلى الله تعالى هو عبودية الله، وآخرها التوكل على الله، فلهذا السبب قال: * (فاعبده وتوكل عليه) *.
والمرتبة الثالثة: من المراتب المهمة لكل عامل معرفة المستقبل وهو أنه يعرف كيف يصير حاله بعد انقضاء هذه الحياة الجسمانية، وهل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وما ربك بغافل عما تعملون) * والمقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقطمير ويعاتبوا في الصغير والكبير، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير، فظهر أن هذه الآية وافية بالإشارة إلى جميع المطالب العلوية، والمقاصد القدسية، وأنه ليس وراءها للعقول مرتقى ولا للخواطر منتهى والله الهادي للصواب، تمت السورة بحمد الله وعونه، وقد وجد بخط المصنف رضي الله عنه في النسخة المنتقل منها ثم تفسير هذه السورة قبل طلوع الصبح ليلة الاثنين من شهر رجب ختمه الله بالخير والبركة سنة إحدى وستمائة، وقد كان لي ولد صالح حسن السيرة فتوفى في الغربة في عنفوان شبابه، وكان قلبي كالمحترق لذلك السبب، فأنا أنشد الله إخواني في الدين وشركائي في طلب اليقين وكل من نظر في هذا الكتاب وانتفع به أن يذكر ذلك الشاب بالرحمة والمغفرة، وأن يذكر هذا المسكين بالدعاء وهو يقول: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) * (آل عمران: 8) وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.