فجاء باللغتين فمن قرأ بقطع الألف فحجته قوله سبحانه وتعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * (الإسراء: 1) ومن وصل فحجته قوله: * (والليل إذا يسر) * (الفجر: 4) والسري السير في الليل. يقال: سرى يسري إذا سار بالليل وأسرى بفلان إذا سير به بالليل، والقطع من الليل بعضه وهو مثل القطعة، يريد اخرجوا ليلا لتسبقوا نزول العذاب الذي موعده الصبح. قال نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أخبرني عن قول الله * (بقطع من الليل) * قال هو آخر الليل سحر، وقال قتادة: بعد طائفة من الليل، وقال آخرون هو نصف الليل فإنه في ذلك الوقت قطع بنصفين.
ثم قال: * (ولا يلتفت منكم أحد) * نهى من معه عن الالتفات والالتفات نظر الإنسان إلى ما وراءه، والظاهر أن المراد أنه كان لهم في البلدة أموال وأقمشة وأصدقاء، فالملائكة أمروهم بأن يخرجوا ويتركوا تلك الأشياء ولا يلتفتوا إليها البتة، وكان المراد منه قطع القلب عن تلك الأشياء وقد يراد منه الانصراف أيضا. كقوله تعالى: * (قالوا أجئتنا لتلفتنا) * (يونس: 78) أي لتصرفنا، وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله: * (ولا يلتفت منكم أحد) * النهي عن التخلف.
ثم قال: * (إلا امرأتك) * قرأ ابن كثير وأبو عمر * (إلا امرأتك) * بالرفع والباقون بالنصب. قال الواحدي: من نصب وهو الاختيار فقد جعلها مستثناة من الأهل على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة عبد الله * (فأسر بأهلك إلا امرأتك) * فأسقط قوله: * (ولا يلتفت منكم أحد) * من هذا الموضع، وأما الذين رفعوا فالتقدير * (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) *.
فإن قيل: فهذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم أحد إلا زيد كان ذلك أمرا لزيد بالقيام.
وأجاب أبو بكر الأنباري عنه فقال: معنى * (إلا) * ههنا الاستثناء المنقطع على معنى، لا يلتفت منكم أحد، لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم، وإذا ان هذا الاستثناء منقطعا كان التفاتها معصية ويتأكد ما ذكرنا بما روي عن قتادة أنه قال إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية فلما سمعت هذا العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأصابها حجر فأهلكها.
واعلم أن القراءة بالرفع أقوى، لأن القراءة بالنصب تمنع من خروجها مع أهله لكن على هذا التقدير الاستثناء يكون من الأهل كأنه أمر لوطا بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة مع الهالكين وأما القراءة بالنصب فإنها أقوى من وجه آخر، وذلك لأن مع القراءة بالنصب يبقى الاستثناء متصلا