واعلم أن الذي فعله يوسف من الصبر والتوقف إلى أن تفحص الملك عن حاله هو اللائق بالحزم والعقل، وبيانه من وجوه: الأول: أنه لو خرج في الحال فربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثرها، فلما التمس من الملك أن يتفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوسل بها إلى الطعن فيه. الثاني: أن الإنسان الذي بقي في السجن اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه الظاهر أنه يبادر بالخروج، فحيث لم يخرج عرف منه كونه في نهاية العقل والصبر والثبات، وذلك يصير سببا لأن يعتقد فيه بالبراءة عن جميع أنواع التهم، ولأن يحكم بأن كل ما قيل فيه كان كذبا وبهتانا. الثالث: أن التماسه من الملك أن يتفحص عن حاله من تلك النسوة يدل أيضا على شدة طهارته إذ لو كان ملوثا بوجه ما، لكان خائفا أن يذكر ما سبق. الرابع: أنه حين قال للشرابي: * (اذكرني عند ربك) * فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن بضع سنين وههنا طلبه الملك فلم يلتفت إليه ولم يقم لطلبه وزنا، واشتغل بإظهار براءته عن التهمة، ولعله كان غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله، وكان هذا العمل جاريا مجرى التلافي لما صدر من التوسل إليه في قوله: * (اذكرني عند ربك) * ليظهر أيضا هذا المعنى لذلك الشرابي، فإنه هو الذي كان واسطة في الحالتين معا.
أما قوله: * (فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير والكسائي * (فسله) * بغير همز والباقون * (فاسأله) * بالهمز، وقرأ عاصم برواية أبي بكر عنه * (النسوة) * بضم النون والباقون بكسر النون، وهما لغتان.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية فيها أنواع من اللطائف: أولها: أن معنى الآية: فسل الملك يأن يسأل ما شأن تلك النسوة وما حالهن ليعلم براتي عن تلك التهمة، إلا أنه اقتصر على أن يسأل الملك عن تلك الواقعة لئلا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل وثانيها: أنه لم يذكر سيدته مع أنها هي التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة. وثالثها: أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عمل قبيح وفعل شنيع عند الملك، فاقتصر يوسف عليه السلام على مجرد قوله: * (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) * وما شكا منهن على سبيل التعيين والتفصيل. ثم قال يوسف بعد ذلك: * (إن ربي بكيدهن عليم) * وفي المراد من قوله: * (إن ربي) * وجهان: الأول: أنه هو الله تعالى، لأنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور. والثاني: أن المراد الملك وجعله ربا لنفسه لكونه مربيا وله وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالما بكيدهن ومكرهن.
واعلم أن كيدهن في حقه يحتمل وجوها: أحدها: أن كل واحدة منهن ربما طمعت فيه،