الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه، ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن، وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى.
فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها: * (فذلكن الذي لمتنني فيه) * وكيف تصير هذه الحالة عذرا لها في قوة العشق وإفراط المحبة؟
قلنا: قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة، والحسرة، والأرق والقلق، وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن والله أعلم.
المسألة الثالثة: قرأ أبو عمرو * (وقلن حاشا لله) * بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعا للمصحف " وحاشا " كلمة يفيد معنى التنزيه، والمعنى ههنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله. أما قوله: * (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) * فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله.
المسألة الرابعة: قوله: * (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) * فيه وجهان:
الوجه الأول: وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا: لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان، ولذلك قال تعالى في صفة جهنم * (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) * (الصافات: 65) وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك. والوجه الثاني: وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة، وجواذب الغضب، ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى، ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن البتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة، وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثرا من أثر الشهوة، ولا شيئا من البشرية، ولا صفة من الإنسانية، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية.
فإن قالوا: فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة؟ فالجواب قد سبق. والله أعلم.