البقاع بمزيد التعظيم والاحترام.
ثم قال تعالى: * (ذلك الدين القيم) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أن قوله: * (ذلك) * إشارة إلى قوله: * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) * لا أزيد ولا أنقص أو إلى قوله: * (منها أربعة حرم) * وعندي أن الأول أولى، لأن الكفار سلموا أن أربعة منها حرم، إلا أنهم بسبب الكبسة ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهرا، وكانوا يغيرون مواقع الشهور، والمقصود من هذه الآية الرد على هؤلاء، فوجب حمل اللفظ عليه. البحث الثاني: في تفسير لفظ الدين وجوه: الأول: أن الدين قد يراد به الحساب. يقال: الكيس من دان نفسه أي حاسبها، والقيم معناه المستقيم. فتفسير الآية على هذا التقدير، ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدل المستوفى. الثاني: قال الحسن: ذلك الذين القيم الذي لا يبدل ولا يغير، فالقيم ههنا بمعنى القائم الذي لا يبدل ولا يغير، الدائم الذي لا يزول، وهو الدين الذي فطر الناس عليه. الثالث: قال بعضهم: المراد أن هذا التعبد هو الدين اللازم في الإسلام. وقال القاضي: حمل لفظ الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب، لأنه مجاز فيه، ويمكن أن يقال: الأصل في لفظ الدين الانقياد. يقال: يا من دانت له الرقاب، أي انقادت، فالحساب يسمى دينا، لأنه يوجب الانقياد، والعدة تسمى دينا، فلم يكن حمل هذا اللفظ على التعبد أولى من حمله على الحساب. قال أهل العلم: الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكواتهم وسائر أحكامهم السنة العربية بالأهلة، ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية. ثم قال تعالى: * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * وفيه بحثان:
البحث الأول: الضمير في قوله: * (فيهن) * فيه قولان: الأول: وهو قول ابن عباس: أن المراد: فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقا في جميع العمر. والثاني: وهو قول الأكثرين: أن الضمير في قوله: * (فيهن) * عائد إلى الأربعة الحرم. قالوا: والسبب فيه ما ذكرنا أن لبعض الأوقات أثرا في زيادة الثواب على الطاعات والعقاب على المحظورات، والدليل على أن هذا القول أولى وجوه: الأول: أن الضمير في قوله: * (فيهن) * عائد إلى المذكور السابق. فوجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله: * (منها أربعة حرم) * الثاني: أن الله تعالى خص هذه الأشهر بمزيد الاحترام في آية أخرى وهو قوله: * (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضا، إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيها على زيادتها في الشرف.