نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) *.
اعلم أنه تعالى شرح أحوال منافقي المدينة، ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب، ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص، ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم؟ وهم السابقون المهاجرون والأنصار. فذكر في هذه الآية أن جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق، وإن كنتم لا تعلمون كونهم كذلك فقال: * (وممن حولكم من الأعراب منافقون) * وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، وكانوا نازلين حولها.
وأما قوله: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) * ففيه بحثان:
البحث الأول: قال الزجاج: أنه حصل فيه تقديم وتأخير، والتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق. الثاني: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون التقدير: ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق فأضمر " من " لدلالة * (من) * عليها كما في قوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) يريد إلا من له مقام معلوم.
البحث الثاني: يقال: مرد يمرد مردوا فهو مارد ومريد إذا عتا، والمريد من شياطين الإنس والجن، وقد تمرد علينا أي عتا، وقال ابن الأعرابي: المراد التطاول بالكبر والمعاصي، ومنه: * (مردوا على النفاق) * وأصل المرود الملاسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا، كأن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه، بقي كما كان على صفته الأصلية من غير حدوث تغير فيه البتة، وذلك هو الملاسة.
إذا عرفت أصل اللفظ فنقول: قوله: * (مردوا على النفاق) * أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه.
ثم قال تعالى: * (لا تعلمهم نحن نعلمهم) * وهو كقوله: * (لا تعلمونهم الله يعلمهم) * والمعنى أنهم تمردوا في حرفة النفاق فصاروا فيها أستاذين، وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك.
ثم قال: * (سنعذبهم مرتين) * وذكروا في تفسير المرتين وجوها كثيرة:
الوجه الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الأمراض في الدنيا، وعذاب الآخرة، وذلك أن مرض المؤمن يفيده تكفير السيئات، ومرض الكافر يفيده زيادة الكفر وكفران النعم.
الوجه الثاني: روى السدي عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قام خطيبا يوم الجمعة فقال: " اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق " فأخرج من المسجد ناسا وفضحهم فهذا هو العذاب الأول، والثاني عذاب القبر.