فهذا ما حضرنا في تقرير دلالة قوله تعالى: * (فالق الإصباح) * على وجود الصانع القادر المختار الحكم. والله أعلم.
ولنختم هذه الدلائل بخاتمة شريفة فنقول: إنه تعالى فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد، وفالق ظلمة الجهالة بصباح العقل والإدراك، وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صبحة عالم الأفلاك، وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات.
المسألة الثالثة: في تفسير * (الإصباح) * وجوه: الأول: قال الليث: الصبح والصباح هما أول النهار وهو الإصباح أيضا. قال تعالى: * (فالق الإصباح) * يعني الصبح. قال الشاعر:
أفنى رياحا وبنى رياح * تناسخ الإمساء والإصباح والقول الثاني: أن * (الإصباح) * مصدر سمي به الصبح.
فإن قيل: ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح وليس الأمر كذلك فإن الحق أنه تعالى فلق الظلمة بالصبح فكيف الوجه فيه؟ فنقول فيه وجوه: الأول: أن يكون المراد فالق ظلمة الإصباح، وذلك لأن الأفق من الجانب الشمالي والغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور. وإنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرا مملوءا من الظلمة. ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولا من النور فيه، والحاصل أن المراد فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ولما كان المراد معلوما حسن الحذف. والثاني: أنه تعالى كما يشق بحر الظلمة عن نور الصبح فكذلك يشق نور الصبح عن بياض النهار فقوله: * (فالق الإصباح) * أي فالق الإصباح ببياض النهار. والثالث: أن ظهور النور في الصباح أنما كان لأجل أن الله تعالى فلق تلك الظلمة فقوله: * (فالق الإصباح) * أي مظهر الإصباح إلا أنه لما كان المقتضى لذلك الإظهار هو ذلك الفلق لا جرم ذكر اسم السبب والمراد منه المسبب. الرابع: قال بعضهم: الفالق هو الخالق فكان المعنى خالق الإصباح وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وجاعل الليل سكنا) * فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية ثلاثة أنواع من الدلائل الفلكية على التوحيد. فأولها: ظهور الصباح وقد فسرناه بمقدار الفهم. وثانيها: قوله * (وجاعل الليل سكنا) * وفيه مباحث:
المبحث الأول: قال صاحب " الكشاف ": السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب، ومنه قيل: للنار سكن لأنه يستأنس بها ألا تراهم سموها