فالصبح الأول: هو الصبح المستطيل كذنب السرحان، ثم تعقبه ظلمة خالصة، ثم يطلع بعده الصبح المستطير في جميع الأفق فنقول: أما الصبح الأول: وهو المستطيل الذي يحصل عقيبه ظلمة خالصة فهو من أقوى الدلائل على قدرة الله وحكمته، وذلك لأنا نقول: إن ذلك النور إما أن يقال: إنه حصل من تأثير قرص الشمس أو ليس الأمر كذلك، والأول باطل، وذلك لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فأهل الموضع الذي تكون تلك الدائرة أفقا لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم، وفي ذلك الموضع أيضا نصف كرة الأرض، وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتنا، وذلك الضوء يكون منتشرا مستطيرا في جميع أجزاء الجو، ويجب أن يكون ذلك الضوء في كل ساعة إلى القوة والزيادة والكمال، والصبح الأول لو كان أثر قرص الشمس لامتنع كونه خطا مستطيلا، بل يجب أن يكون مستطيرا في جميع الأفق منتشرا فيه بالكلية، وأن يكون متزايدا متكاملا بحسب كل حين ولحظة، ولما لم يكن الأمر كذلك بل علمنا أن الصبح الأول يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى تشبهه العرب بذنب السرحان، ثم إنه يحصل عقيبه ظلمة خالصة، ثم يحصل الصبح المستطير بعد ذلك علمنا أن ذلك الصبح المستطيل ليس من تأثير قرص الشمس، ولا من جنس نوره، فوجب أن يكون ذلك حاصلا بتخليق الله تعالى ابتداء تنبيها على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بتخليقه، وإن الظلمات لا ثبات لها إلا بتقديره كما قال في أول هذه السورة * (وجعل الظلمات والنور) *.
والوجه الثاني: في تقرير هذا الدليل أنا لما بحثنا وتأملنا علمنا أن الشمس والقمر وسائر الكواكب لا تقع أضواؤها إلى على الجرم المقابل لها. فأما الذي لا يكون مقابلا لها فيمتنع وقوع أضوائها عليه، وهذه مقدمة متفق عليها بين الفلاسفة وبين الرياضيين الباحثين عن أحوال الضوء المضئ، ولهم في تقريرها وجوه نفيسة.
إذا عرفت هذا نقول: الشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلا لجزء من أجزاء وجه الأرض، فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير قرص الشمس، فوجب أن يكون ذلك بتخليق الفاعل المختار.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال: الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل له، ثم ذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض، فيصيره ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سببا لضوء الهواء الواقف فوق الأرض، ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء إلى هواء