ومخالطة، والجمع: المعاشر. وقوله: * (رسل منكم) * اختلفوا هل كان من الجن رسول أم لا؟ فقال الضحاك: أرسل من الجن رسل كالإنس وتلا هذه الآية وتلا قوله: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (فاطر: 24) ويمكن أن يحتج الضحاك بوجه آخر وهو قوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9) قال المفسرون: السبب فيه أن استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك، فوجب في حكمة الله تعالى أن يجعل رسول الإنس من الإنس ليكمل هذا الاستئناس.
إذا ثبت هذا المعنى، فهذا السبب حاصل في الجن، فوجب أن يكون رسول الجن من الجن.
والقول الثاني: وهو قول الأكثرين: أنه ما كان من الجن رسول البتة، وإنما كان الرسل من الأنس. وما رأيت في تقرير هذا القول حجة إلا ادعاء الإجماع، وهو بعيد لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف، ويمكن أن يستدل فيه بقوله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * (آل عمران: 33) وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة، فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء القوم فقط، فأما تمسك الضحاك بظاهر هذه الآية، فالكلام عليه من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) * فهذا يقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضا من أبعاض هذا المجموع، وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضا من أبعاض ذلك المجموع، فكان هذا القدر كافيا في حمل اللفظ على ظاهره، فلم يلزم من ظاهر هذه الآية إثبات رسول من الجن. الثاني: لا يبعد أن يقال: إن الرسل كانوا من الأنس إلا أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل ويأتوا قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به، كما قال تعالى: * (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) * (الأحقاف: 29) فأولئك الجن كانوا رسل الرسل، فكانوا رسلا لله تعالى، والدليل عليه: أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه. فقال: * (إذ أرسلنا إليهم اثنين) * (يس: 14) وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة، فكان المقصود حاصلا.
الوجه الثالث: في الجواب قال الواحدي: قوله تعالى: * (رسل منكم) * أراد من أحدكم وهو الأنس وهو كقوله: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (الرحمن: 22) أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب.
واعلم أن الوجهين الأولين لا حاجة معهما إلى ترك الظاهر. أما هذا الثالث فإنه يوجب ترك الظاهر، ولا يجوز المصير إليه إلا بالدليل المنفصل.