اعلم أنه لما بين بقوله: * (إنما توعدون لآت) * أمر رسوله من بعده أن يهدد من ينكر البعث عن الكفار، فقال * (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ أبو بكر عن عاصم * (مكاناتكم) * بالألف، على الجمع في كل القرآن، والباقون * (مكانتكم) * قال الواحدي: والوجه الإفراد، لأنه مصدر، والمصادر في أكثر الأمر مفردة، وقد تجمع أيضا في بعض الأحوال، إلا أن الغالب هو الأول.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف ": المكانة تكون مصدرا، يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة، فقوله: * (اعملوا على مكانتكم) * يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، ويحتمل أيضا أن يراد اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: على مكانتك يا فلان، أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه * (إني عامل) * أي أنا عامل على مكانتي، التي عليها، والمعنى: أثبتوا على كفركم وعداوتكم، فأني ثابت على الإسلام، وعلى مضارتكم * (فسوف تعلمون) * أيناله العاقبة المحمودة، وطريقة هذا الأمر طريقة قوله: * (اعملوا ما شئتم) * وهي تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد.
البحث الثالث: من في قوله: * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) * ذكر الفراء في موضعه من الإعراب وجهين: الأول: أنه نصب لوقوع العلم عليه. الثاني: أن يكون رفعا على معنى: تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار، كقوله تعالى: * (لنعلم أي الحزبين) * (الكهف: 12).
البحث الرابع: قوله: * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) * يوهم أن الكافر ليست له عاقبة الدار، وذلك مشكل.
قلنا: العاقبة، تكون على الكافر ولا تكون له، كما يقال: له الكثرة ولهم الظفر، وفي ضده يقال: عليكم الكثرة والظفر.
البحث الخامس: قرأ حمزة والكسائي * (من يكون) * بالياء وفي القصص أيضا والباقون بالتاء في السورتين. قال الواحدي: العاقبة مصدر كالعافية، وتأنيثه غير حقيقي، فمن أنث، فكقوله: * (فأخذتهم الصيحة) * (المؤمنون: 41) ومن ذكر فكقوله: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) * (هود: 67) وقال: * (قد جاءتكم موعظة من ربكم) * (يونس: 57) وفي آية أخرى: * (فمن جاءه موعظة من ربه) * (البقرة: 275).
ثم قال تعالى: * (إنه لا يفلح الظالمون) * والغرض منه بيان أن قوله: * (اعملوا على مكانتكم) * تهديد وتخويف لا أنه أمر وطلب، ومعناه: أن هؤلاء الكفار لا يفلحون ولا يفوزون بمطالبهم البتة.