واعلم أنا أطنبنا الكلام في هذا الدليل في كتاب " الجبر والقدر "، ونكتفي ههنا من تلك الكلمات بنكت قليلة. قالت المعتزلة: هذا اللفظ وإن كان عاما إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تدل على أن أعمال العباد خارجة عن هذا العموم. فأحدهما: أنه تعالى قال: * (خالق كل شيء فاعبدوه) * فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله: * (خالق كل شيء) * لصار تقدير الآية: أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى. ومعلوم أن ذلك فاسد. وثانيها: أنه تعالى إنما ذكر قوله: * (خالق كل شيء) * في معرض المدح والثناء على نفسه، فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحا وثناء لأنه لا يليق به سبحانه أن يتمدح بخلق الزنا واللواط والسرقة والكفر. وثالثها: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) *، وهذا تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك، وأنه لا مانع له البتة من الفعل والترك، وذلك يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى إذ لو كان مخلوقا لله تعالى لما كان العبد مستقلا به، لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع منه الدفع، وإذا لم يوجده الله تعالى امتنع منه التحصيل. فلما دلت هذه الآية على كون العبد مستقلا بالفعل والترك وثبت أن كونه كذلك يمنع أن يقال فعل العبد مخلوق لله تعالى، ثبت أن ذكر قوله: * (فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها) * يوجب تخصيص ذلك العموم. ورابعها: أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * وقد بينا أن المراد منه رواية مذهب المجوس في إثبات إلهين للعالم. أحدهما يفعل اللذات والخيرات، والآخر يفعل الآلام والآفات فقوله بعد ذلك: * (لا إله إلا هو خالق كل شيء) * يجب أن يكون محمولا على إبطال ذلك المذهب، وذلك إنما يكون إذا قلنا إنه تعالى هو الخالق لكل ما في هذا العالم من السباع والحشرات والأمراض والآلام، فإذا حملنا قوله: * (خالق كل شيء) * على هذا الوجه لم يدخل تحت أعمال العباد. قالوا: فثبت أن هذه الدلائل الأربعة توجب خروج أعمال العباد عن عموم قوله تعالى: * (خالق كل شيء) *.
والجواب: أن نقول الدليل العقلي القاطع قد ساعد على صحة ظاهر الآية. وتقريره أن الفعل موقوف على الداعي وخالق الداعي هو الله تعالى، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل وذلك يقتضي كونه تعالى خالقا لافعال العباد، وإذا تأكد هذا الظاهر بهذا البرهان العقلي القاطع زالت الشكوك والشبهات.
(المسألة الرابعة) قوله تعالى (خالق كل شئ فاعبدوه) يدل على ترتيب الامر بالعبادة على كونه تعالى خالقا لكل الأشياء بفاء التعقيب وترتيب الحكم على الوصف بحرف الفاء مشعر بالسبية، فهذا يقتضى أن يكون كونه تعالى خالقا للأشياء هو الموجب لكونه معبودا على الاطلاق، والاله