* (واشهد بأنا مسلمون) * فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيدا للأمر، وتقوية له، وأيضا طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوة.
القول الرابع: إن قوله * (فاكتبنا مع الشاهدين) * إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى: * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين) * (المطففين: 18) فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهورا في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين.
القول الخامس: إنه تعالى قال: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) * (آل عمران: 18) فجعل أولو العلم من الشاهدين، وقرن ذكرهم بذكر نفسه، وذلك درجة عظيمة، ومرتبة عالية، فقالوا * (فاكتبنا مع الشاهدين) * أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك.
والقول السادس: إن جبريل عليه السلام لما سأل محمدا صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: " أن تعبد الله كأنك تراه " وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود، لا في مقام الغيبة، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال، إلى مقام الشهود والمكاشفة، فقالوا * (فاكتبنا مع الشاهدين) *.
القول السابع: إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له، ذابين عنه، قالوا * (فاكتبنا مع الشاهدين) * أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك.
ثم قال تعالى: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أصل المكر في اللغة، السعي بالفساد في خفية ومداجاة، قال الزجاج: يقال مكر الليل، وأمكر إذا أظلم، وقال الله تعالى: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * (الأنفال: 30) وقال: * (وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) * (يوسف: 102) وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه، ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى: * (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) * (يونس: 71) فلما كان المكر رأيا محكما قويا مصونا عن جهات النقص والفتور، لا جرم سمي مكرا.
المسألة الثانية: أما مكرهم بعيسى عليه السلام، فهو أنهم هموا بقتله، وأما مكر الله تعالى بهم، ففيه وجوه الأول: مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وذلك أن يهودا ملك اليهود، أراد قتل عيسى عليه السلام، وكان جبريل عليه السلام، لا يفارقه ساعة، وهو معنى قوله * (وأيدناه بروح القدس) * (البقرة: 87) فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتا فيه روزنة، فلما دخلوا