بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها.
النوع الأول من الاصطفاء: فهو أمور أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها: قال الحسن: إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى: * (أنى لك هذا قالت هو من عند الله) * وخامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول، وأما التطهير ففيه وجوه أحدها: أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم * (ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) وثانيها: أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها: طهرها عن الحيض، قالوا: كانت مريم لا تحيض ورابعها: وطهرك من الأفعال الذميمة، والعادات القبيحة وخامسها: وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
وأما الاصطفاء الثاني: فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، وجعلها وابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة.
المسألة الخامسة: روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " حسبك من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة عليهن السلام " فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء، وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل، وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها، فهذا ترك الظاهر.
ثم قال تعالى: * (يا مريم اقنتي لربك واسجدي) * وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى: * (وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 238) وبالجملة فلما بين تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات، شكرا لتلك النعم السنية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع؟.
والجواب من وجوه الأول: أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني: أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجدا قال عليه الصلاة والسلام: " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد " فلما كان السجود مختصا بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات.