البحث الثاني: أن مريم في لغتهم: العابدة، فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا، والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) *.
البحث الثالث: أن قوله * (وإني سميتها مريم) * معناه: وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسما لها، وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة.
ثم حكى الله تعالى عنها كلاما ثالثا وهو قولها * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * وذلك لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلا خادما للمسجد تضرعت إلى الله تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم، وأن يجعلها من الصالحات القانتات، وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب.
ولما حكى الله تعالى عن حنة هذه الكلمات قال: * (فتقبلها ربها بقبول) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما قال * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * ولم يقل: فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى: * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) أي إنباتا، والقبول مصدر قولهم: قبل فلان الشيء قبولا إذا رضيه، قال سيبويه: خمسة مصادر جاءت على فعول: قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ، إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم، وأجاز الفراء والزجاج: قبولا بالضم، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال: قبلته قبولا وقبولا، وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة، فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول.
فإن قيل: فلم لم يقل: فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل؟
والجواب: أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع، أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع، بل على وفق الطبع، وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى، إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها، وهذا الوجه مناسب معقول.
المسألة الثانية: ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوها:
الوجه الأول: أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي صلى الله