أما قوله تعالى: * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * فلفظ النهي واقع على الموت، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، ومضى الكلام في هذا عند قوله * (إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * (البقرة: 132).
ثم قال تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) *.
واعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله.
واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلق رجل الكثير من الحلق عنه، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة، فذكر كل واحد من المفسرين واحدا من تلك الأشياء، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) وقال: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * (آل عمران: 112) أي بعهد، وإنما سمي العهد حبلا لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف، وقيل: إنه القرآن، روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أما إنها ستكون فتنة " قيل: فما المخرج منها؟ قال: " كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين " وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هذا القرآن حبل الله " وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي " وقيل: إنه دين الله، وقيل: هو طاعة الله، وقيل: هو إخلاص التوبة، وقيل: الجماعة، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله * (ولا تفرقوا) * وهذه الأقوال كلها متقاربة، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلا لله، وأمروا بالاعتصام به.
ثم قال تعالى: * (ولا تفرقوا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في التأويل وجوه الأول: أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحدا، وما عداه يكون جهلا وضلالا، فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن