ثم قال تعالى: * (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في لفظ (القائم) وجهان: منهم من حمله على حقيقته، قال السدي: يعني إلا ما دمت قائما على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له، والمعنى: أنه إنما يكون معترفا بما دفعت إليه ما دمت قائما على رأسه، فإن أنظرت وأخرت أنكر، ومنهم من حمل لفظ (القائم) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة، قال ابن قتيبة: أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه، دليل قوله تعالى: * (أمة قائمة) * (آل عمران: 113) أي عامله بأمر الله غير تاركه، ثم قيل: لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام الثاني: قال أبو علي الفارسي: القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات، وذكرنا ذلك في قوله تعالى: * (يقيمون الصلاة) * (البقرة: 3) ومنه قوله * (دينا قيما) * (الأنعام: 161) أي دائما ثابتا لا ينسخ فمعنى قوله * (إلا ما دمت عليه قائما) * أي دائما ثابتا في مطالبتك إياه بذلك المال.
المسألة الثانية: يدخل تحت قوله * (من أن تأمنه بقنطار) * و * (بدينار) * العين والدين، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقاوضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة، فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضا أن الآية نزلت في أن رجلا أودع مالا كثيرا عند عبد الله بن سلام، ومالا قليلا عند فنحاص بن عازوراء، فخان هذا اليهودي في القليل، وعبد الله بن سلام أدى الأمانة، فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام.
ثم قال تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) * والمعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل. وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوها الأول: أنهم مبالغون في التعصب لدينهم، فلا جرم يقولون: يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: " كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " الثاني: أن اليهود قالوا * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا الثالث: أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقا لكل من خالفهم، بل للعرب الذين آمنوا