ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده البتة، فإن قيل: لم عدى * (أنزل) * في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلنا: لوجود المعنيين جميعا، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر، وقيل أيضا إنما قيل * (علينا) * في حق الرسول، لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف، ألا ترى إلى قوله * (بما أنزل إليك) * (البقرة: 4) وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا) * (آل عمران: 72).
المسألة الثانية: اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون؟ وحقيقة الخلاف، أن شرعه لما صار منسوخا، فهل تصير نبوته منسوخة؟ فمن قال إنها تصير منسوخة قال: نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلا، ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل، ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة قال: نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع. المسألة الرابعة: قوله * (لا نفرق بين أحد منهم) * فيه وجوه الأول: قال الأصم: التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض، وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد من هذا الوجه يعني: نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله الثاني: قال بعضهم المراد * (لا نفرق بين أحد منهم) * بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى الثالث: قال أبو مسلم * (لا نفرق بين أحد منهم) * أي لا نفرق ما أجمعوا عليه، وهو كقوله * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) * (آل عمران: 103) وذم قوما وصفهم بالتفرق فقال: * (لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) * (الأنعام: 94).
أما قوله * (ونحن له مسلمون) * ففيه وجوه الأول: إن إقرارنا بنبوة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله * (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض) * والثاني: قال أبو مسلم * (ونحن له مسلمون) * أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33) الثالث: أن قوله * (ونحن له مسلمون) * يفيد الحصر والتقدير: له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال والله أعلم.