اشتغالهم بالصلاة، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسية فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركا.
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضا كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود، وأيضا الأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم، وظهر لثان وعصر لثالث، ومغرب لرابع وعشاء لخامس، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلا من هذه الجهة، وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام أيضا فثبت كونه مباركا من الوجهين.
الصفة الثالثة: من صفات هذا البيت كونه * (هدى للعالمين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قيل: المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم، وقيل: هدى للعالمين أي دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولا على وجود الصانع، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء، وقيل: هدى للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة.
المسألة الثانية: قال الزجاج: المعنى وذا هدى للعالمين، قال: ويجوز أن يكون * (وهدى) * في موضع رفع على معنى وهو هدى.
أما قوله تعالى: * (فيه آيات بينات) * ففيه قولان الأول: أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي: أمن الخائف، وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور.
وقوله * (مقام إبراهيم) * لا تعلق له بقوله * (فيه آيات بينات) * فكأنه تعالى قال: * (فيه آيات بينات) * ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم.