النوع الثالث: من الوعيد قوله * (وما لهم من ناصرين) * والمعنى أنه تعالى لما بين أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية، بين أيضا أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة، ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر، والله أعلم.
قوله تعالى * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شىء فإن الله به عليم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة، فقال: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * وبين في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار، ثم قال في آية أخرى * (إن الأبرار لفي نعيم) * (المطففين: 22) وقال أيضا: * (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) * (الإنسان: 5) وقال أيضا: * (إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) * (المطففين: 22، 26) وقال: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) * (البقرة: 177) فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر، وفيه لطيفة أخرى.
وهي أنه تعالى قال: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة) * إلى آخر الآية، فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير، وسماه البر ثم قال في هذه الآية * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات، وههنا بحث وهو: أن لقائل أن يقول كلمة * (حتى) * لانتهاء الغاية فقوله * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار، فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات، وهو باطل، وجواب هذا الإشكال: أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول، فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة، ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر،