تعالى بعد هذه * (فاتقوا الله ما استطعتم) * ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه الأول: ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له: " هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " وهذا لا يجوز أن ينسخ الثاني: أن معنى قوله * (اتقوا الله حق تقاته) * أي كما يحق أن يتقى، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (التغابن: 16) واحدا لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله * (حق تقاته) * ما لا يستطاع من التقوى، لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * (الحج: 78).
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: * (وما قدروا الله حق قدره) * (الأنعام: 91).
قلنا: سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين؛ أما الذين قالوا: إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا ينسى، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ.
قال المصنف رضي الله تعالى عنه، أقول: للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين الأول: أن كنه الإلاهية غير معلوم للخلق، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوما للخلق، وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به الثاني: أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معا فنسخ المغلظ وبقي المخفف، وقيل: إن هذا باطل، لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي، لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجورا عنه وإنه غير جائز.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (حق تقاته) * أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى: * (حق اليقين) * (الواقعة: 95) ويقال: هو الرجل حقا، ومنه قوله عليه السلام: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " وعن علي رضي الله عنه أنه قال: أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت، كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت.