دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه - أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي - الصفحة ١٢٢
ثابت البناني عن أبي عثمان النهدي إن أبا موسى الأشعري قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر لما دنونا من المدينة كبر الناس ورفعوا أصواتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه بينكم وبين أعناق ركابكم " ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يا أبا موسى هل أدلك على كنز من كنوز الجنة " قال قلت وما هو يا رسول الله قال " لا حول ولا قوة إلا بالله " قال جابر ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم عندنا " إن الذي تدعونه بينكم وبين أعناق ركابكم " وذلك أن الله تعالى يقول: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) وقال (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) والتشبيه والتحديد لا يكون إلا لمخلوق لأن المخلوق إذا قرب من موضع تباعد من غيره وإذا كان في مكان عدم من غيره لأن التحديد يستوجب الزوال والانتقال والله تعالى عز عن ذلك.
قال جابر بن زيد حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يوشك الشرك أن ينتقل من ربع إلى ربع ومن قبيلة إلى قبيلة " قيل يا رسول الله وما ذلك الشرك قال " قوم يأتون بعدكم يحدون الله حدا بالصفة ".
قال جابر بن زيد سئل ابن عباس عن قوله تعالى (الرحمن على العرش أستوى) فقال ارتفع ذكره وثناؤه على خلقه لا على ما قال المنددون أن له أشباها وأندادا تعالى الله عن ذلك.
قال وحدثنا إسماعيل ابن إبراهيم قال حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر إنه سئل عن الصخرة التي كانت في بيت المقدس فقال له إن ناسا يقولون فذكر قولهم سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا فارتعد ابن عمر فرقا وشفقا حين وصفوه بالحدود والانتقال فقال ابن عمر إن الله أعظم وأجل أن يوصف بصفات المخلوقين هذا كلام اليهود أعداء الله إنما يقولون (الرحمن على العرش أستوى) أي استوى أمره وقدرته فوق بريته.
قال ليث قال محمد بن الحنفية: قاتل الله أهل الشام ما أكفرهم أو قال ما أضلهم يقولون وضع الله قدمه على صخرة بيت المقدس وقد وضع عبد من عباده يعني إبراهيم عليه السلام قدمه على حجر فجعله قبلة للناس تكذيبا لقولهم وردا لباطلهم وقال الحسن ارتفع ذكره وثناؤه ومجده على خلقه ولا يوصف الله تبارك وتعالى بزوال من مكان إلى مكان. قال: وسئل هشيم عن ذلك وقال كان أصحابنا يقولون قهر العرش. وقال الحسن في قوله (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) أي استوى أمره وقدرته إلى السماء وقوله (ثم أستوى على العرش) يعني استوى أمره وقدرته ولطفه فوق خلقه ولا يوصف الله بصفات الخلق ولا يقع عليه الوصف كما يقع على الخلق. وكان عبد الله بن مسعود وعائشة وابن عمر وابن الحنفية وعروة بن الزبير ينكرون ما يقول أهل الشام في الصخرة وينهون عنه ويشددون فيه. ا ه.
ومنها: ما في كتاب " الإبانة " لأبي الحسن الأشعري وهو من أول مؤلفاته خلافا لما تزعمه المجسمة أنه آخر مؤلفاته في النسخة المحققة على أربع نسخ خطية ما نصه:
" وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار، والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شئ شهيد " انتهى كلام أبي الحسن الأشعري من " الإبانة ".
وهذا النص من الإبانة ليس موجودا في النسخ المطبوعة المتداولة بأيدي الناس، وأنما هو ثابت في مخطوطة نسخة بلدية الإسكندرية وهو منقول ثابت في النسخة المطبوعة التي حققتها الدكتورة فوقية حسين محمود طبع دار الأنصار بالقاهرة الطبعة الأولى 1397 ه فتنبه.
وينبغي التنبيه أيضا ههنا على: أن كتاب " الإبانة " يعتبر من الكتب الهادمة لعقائد المجسمة والمشبهة، ويدل على ذلك أشياء كثيرة فيه موجودة ومسطرة حتى في جميع النسخ المتداولة المطبوعة التي بأيدي الناس ونذكر بعضها فنقول: ذكر أبو الحسن الأشعري في مقدمة الإبانة ما نصه: " ليست له صورة تقال ولا حد يضرب له مثال " ا ه وهذا يهدم ما تزعمه المجسمة من أن لله تعالى صورة وحد، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وفي كتابنا (إلقام الحجر) ص (17 - 20) ذكر باقي المسائل ببعض توسع فليراجعها من شاء.
وأما رد الإمام أبي الحسن الأشعري تفسير الاستواء بالاستيلاء فنحن لا نوافقه في ذلك أبدا، ونقول إنه قال ذلك: بسبب ردة فعل حصلت عنده من المعتزلة، وهم وإن لم نوافقهم في كثير من مسائلهم إلا أننا هنا نوافقهم ونعتقد أنهم مصيبون في هذه المسألة، لما دللنا عليه وأوضحناه.
وهنا أمر مهم جدا وهو: أننا لا نقول بأن الله تعالى موجود في كل مكان البتة بل نكفر من يقول ذلك ونعتقد أن الله سبحانه موجود بلا مكان، لأنه خالق المكان.