دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه - أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي - الصفحة ١٢٧
وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا: " استوى على العرش بذاته "، وهي زيادة لم تنقل (53)، إنما فهموها من إحساسهم، وهو أن المستوي على الشئ إنما تستوي عليه
(٥٣) الغريب أن المبتدعة يقولون: لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ثم يقولون: استوى على العرش بذاته، فمن أين جاءوا بلفظة " بذاته " هذه؟! وأين وردت في الكتاب والسنة؟! وهي لفظة تفيد التجسيم صراحة وتؤيد قول أئمتهم " بجلوس معبودهم على العرش حتى يفضل منه مقدار أربع أصابع "!!
وقد وقع بذلك الخلال فنقل في كتابه " السنة " وما أحراه بأن يسمى كتاب البدعة عن مجاهد بسند ضعيف أكثر من خمسين مرة تفسير المقام المحمود الوارد في قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) بجلوس الرب تعالى عما يقولون على العرش وإجلاسه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بجنبه في الفراغ المقدر عندهم بأربع أصابع، وهذه هي عقيدة الشيخ الحراني كما نقلها الحافظ أبو حيان من خطه في تفسيره (النهر الماد) كما ذكرنا ذلك قريبا، كما أنها عقيدة تلميذ الحراني: ابن القيم كما ذكرها في " بدائع فوائده " (٤ / ٣٩ - ٤٠) وهما بعد ذكر هذه العقيدة لن يبرءا من التجسيم مهما نقلا من نصوص في ذم التشبيه، وخصوصا أن الشيخ الحراني يقول في " تأسيسه " (١ / ١٠٩): " وإذا كان كذلك فاسم المشبهة ليس له ذكر بذم في الكتاب والسنة ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين " اه ويقول في تأسيسه (١ / ١٠١) أيضا: " وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه ليس بجسم وأن صفاته ليست أجساما وأعراضا؟! فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال "!!! وقوله أيضا في تأسيسه (١ / ١١١): " والباري سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقة ليست فوقية الرتبة " قلت: وقد بين لنا فيما نقله من خطه الحافظ أبو حيان ما هي الفوقية الحقيقة عنده وعند تلميذه ابن زفيل صاحب بدائع الفوائد وأنها قصة الأصابع الأربع، فهذا الذي نقلناه في شرح وبيان لفظة " بذاته " التي يزيدونها بعد الاستواء أو العلو من كيسهم وبيان المراد بها عند الخلال الذي يفسرها خلاف تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين للمقام المحمود بالشفاعة ومقلديه كالشيخ الحراني وتلميذه ابن زفيل ومقلدهما المحدث!! المتناقض!! وأضرابهم إن لم يكن تجسيما صريحا فما هو التجسيم إذن؟!
وخصوصا أن الحراني بتشديد الراء!! يقول في تأسيسه (1 / 568): " ولو قد شاء - الله - لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم " ا ه وهو وإن كان قد نقله عن بعض أسلافه الذين يوصي بكتبهم أشد الوصية لما حوت بزعمه من خالص التوحيد كرد الدارمي على بشر المريسي فهو مقر لذلك الهذيان غير منكر له، وناقل الكفر المقر له والذي لم ينكره وإنما يودعه في كتبه ومصنفاته لترويجه كافر أيضا عند جميع العقلاء، على أننا قد بينا في غير هذا الموضع أنه يقول أيضا مثل هذا الذي ينقله فهو كلامه الأصلي بلا مرية ولا شك.
وقد أنكر الحافظ الذهبي - الذي تعدل مزاجه فيما بعد شبابه ورجع عما أسلف - في كتابه " سير أعلام النبلاء " على من زاد لفظة " بذاته " بعد العلو أو الاستواء ونحوهما فقال هنالك (19 / 607) ما نصه:
" قد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها وهي تشغب النفوس.. " ا ه وأزيد فأقول: وتقود إلى الكفر وترمي صاحبها في النار نسأل الله تعالى السلامة والوفاة على الإيمان الكامل والعقيدة الصافية الصحيحة. آمين.