دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه - أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي - الصفحة ١٨٦
ستر شيئا فقد كنفه، ويقال للترس كنيف لأنه يستر صاحبه.
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): يدنيه من ذاته.
وهذا قول من لم يعرف الله عز وجل، ولا يعلم أنه لا يجوز عليه الدنو الذي هو بالمسافة وكذلك قوله: إنه ليدنو به يوم عرفة: أي يقرب بلطفه وعفوه.
الحديث السابع عشر روى مسلم في أفراده (123) من حديث معاوية بن الحكم قال:
" كانت لي جارية ترعى غنما لي، فانطلقت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون فصككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. فقلت: ألا أعتقها..؟
قال: " أئتني بها ".
فأتيته بها، فقال لها: " أين الله..؟ ".
قالت: في السماء.
قال: " من أنا " قالت: أنت رسول الله.
قال: " أعتقها فإنها مؤمنة ".

(123) أي في صحيحه (1 / 382 برقم 537) دون البخاري. وقد خالف كثير من الحفاظ في مصنفاتهم هذا اللفظ الذي جاء في " صحيح مسلم " فرووه بلفظ " أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ فقالت: نعم. قال: أتشهدين أني رسول الله؟
قالت نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، قال: فاعتقها " رواه أحمد في مسنده (3 / 452 / 3) وقال الهيثمي في المجمع (4 / 244): رجاله رجال الصحيح. وعبد الرزاق في " المصنف " (9 / 175) والبزار (1 / 14 كشف) والدارمي (2 / 187) والبيهقي (10 / 57) والطبراني (12 / 27) وسنده صحيح وليس فيه سعيد بن المرزبان كما قال الهيثمي، وابن الجارود في المنتقى (931) وابن أبي شيبة (11 / 20).
ومن ذلك يتضح ويتبين أن رواية مسلم بالمعنى أو على الأقل فيها احتمال ومتى طرأ الاحتمال سقط الاستدلال فكيف يبنى على شئ محتمل أصل في العقيدة؟!
ومن العجيب الغريب أننا نرى المجسمة يرددون هذا اللفظ " أين الله " على ألسنتهم دائما ولا يدركون أن هذا تصرف رواة وحكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى المخطئ، وخصوصا بعد ثبوت هذا الحديث عند غير مسلم بلفظ:
" أتشهدين أن لا إله لا الله.. " المخالف " لأين الله " مخالفة تامة، أو على الأقل مخالفة لا تفيد معنى " أين الله ".
وإنني جازم تماما وعلى ثقة كبيرة من أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام لم يقل: " أين الله " لما قدمناه ولأدلة أخرى ذكر بعضها السيد المحدث أبو الفضل الغماري في " فتح المعين " ص (27) منها:
1) مخالفة هذا الحديث لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أتاه شخص يريد الإسلام، سأله عن الشهادتين، فإذا قبلهما حكم بإسلامه.
2) أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أركان الإيمان في حديث سؤال جبريل، ولم يذكر فيه عقيدة أن الله في السماء التي تعتقدها المجسمة.
3) أن عقيدة (" أين الله " في السماء) لا تثبت توحيدا ولا تنفي شركا، فكيف يصف النبي صلى الله عليه وسلم صاحبها بأنه مسلم وقد كان المشركون يعتقدون أن الله في السماء، ويشركون معه آلهة في الأرض؟! كما هو مشهور عنهم، وقد حكى الله عز شأنه عن إمام المجسمة فرعون أنه ظن أن رب سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام في السماء فقال: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل) غافر: 36 - 37 فبين الله تعالى في كتابه أن من ظن حلول الله في السماء فقد صد عن سبيل المعرفة، والمفسرون متفقون على أن معنى قوله (وإني لأظنه كاذبا) أي: في أن له إلها غيري بدليل قوله: (ما علمت لكم من إله غيري) فداء التجسيم هو الداء العضال نسأل الله السلامة.
4) إن ظواهر بعض النصوص التي فيها أن الله في السماء ليس مرادا - أعني هذا الظاهر - عند العلماء وإنما هو مؤول لأن الله لا يسأل عنه بأين، ولم يثبت هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمنا، ومن أخذ بظاهر هذه النصوص فإنه يكون بذلك معتقدا حلول معبوده في خلقه، لأن السماء خلق من خلق الله تعالى فإذا كان الله فيها كما تزعم المجسمة أو ينزل في الثلث الأخير من الليل إلى الطبقة السفلى منها فمعناه كما هو واضح أنه حال بها وأنها أوسع وأكبر منه وهذا باطل من القول بداهة، وأين ذهب قوله تعالى عن بعض خلقه وهو الكرسي (وسع كرسيه السماوات والأرض) وكذلك أين ذهب قوله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر: ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " رواه ابن حبان وسعيد بن منصور بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح (13 / 411).
ولما قدمناه قال الحافظ في الفتح (1 / 220):
" إن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث " ا ه‍.
ولا عبرة بكلام المعلق عليه - الفتح - البتة لأنه لا يعرف التوحيد!! فليخجل بعد هذا من يدعو الناس إلى عقيدة " الله في السماء " وليتب.
وقد روي حديث الجارية في حادثة أخرى وليس فيه ذاك اللفظ المستشنع الشاذ: " أين الله "، وإنما فيه: " من ربك؟ " وهذا يؤكد شذوذ رواية " أين الله " ففي " صحيح ابن حبان " (1 / 419 برقم 189) عن الشريد بن سويد الثقفي، قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء، قال: " ادع بها " فجاءت، فقال: " من ربك؟ " قالت: الله، قال: " من أنا؟ " قالت: رسول الله، قال: " أعتقها فإنها مؤمنة ".
قلت: روى هذا اللفظ " من ربك " في هذه القصة وفي غيرها جماعة من الحفاظ بأسانيد صحيحة منهم: الإمام أحمد في المسند (4 / 222 و 388 و 389) والنسائي في السنن الصغرى (6 / 252) وأبو داود (4 / 230 برقم 3283) إلا أنه لم يذكر المتن، والربيع بن حبيب في مسنده (2 / 62) والطبراني في الكبير (7 / 320 برقم 7257) و (17 / 167 برقم 338) والحاكم في " المستدرك " (3 / 258) والبيهقي في سننه (7 / 388 و 389) وانظر " مجمع الزوائد " (1 / 23) و (4 / 244 و 245).
والله تعالى لا يوصف بأنه بذاته فوق العرش ولا تحته بعد تحقق وجوده، لأنه سبحانه ليس جسما ولا يمكن للعقول أن تدركه، مع التنبيه ههنا بأنه لا يجوز أن يعتقد أي مسلم بأنه في كل مكان، بل إن جواب من سألنا أين الله؟ هو:
موجود بلا مكان والله الموفق.
(١٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 181 182 183 184 185 186 189 191 192 194 195 ... » »»
الفهرست