المجلس السادس والعشرون واعلم أن الفصاحة والبلاغة تعتمد على أمرين: هما مفردات الألفاظ ومركباتها أما المفردات فهي أن تكون سهلة غير وحشية ولا معقدة، وأما المركبات فحسن المعنى وسرعة وصوله إلى الافهام، واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض، وتلك الصفات هي الصناعة التي سماها المتأخرون بالبديع، ولا شبهة ان كلاهما موجودة في كلمات مولانا أمير المؤمنين (ع) ولا توجدان في كلمات غيره من الفصحاء والبلغاء، وإن كان قد أعمل فيها فكره، وأجال فيها رويته، كيف وقد كان روحي له الفداء سيد الفصحاء وإمام البلغاء، ولا شك في أنه أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين والآخرين إلا ما كان من كلام الله سبحانه وكلام رسول الله (ص) وكفاك ما قال السيد الرضي: كان أمير المؤمنين هو مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وحسبك أنه لم يدون لاحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر مما دون له، وقال ابن أبي الحديد: وكان علي (ع) من أبلغ الناس وأفصحهم للقول والكتابة، يضم اللفظة إلى أختها ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر وقد تفاخر گ وقال أحدهما: أنا اشعر منك لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه؟ ثم قال: ألا ترى ما في كلمات علي بن أبي طالب من أن كل لفظة منها اخذت بعنق قرينتها، جاذبة إياها إلى نفسها دالة عليها بذاتها؟ منها ما قال (ع): هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أفرارا أو بحار؟ وقوله (ع): أين من جد واجتهد، وجمع واحتشد، وبني وشيد، وفرش ومهد، وزخرف ونجد؟ فهل سمع السامعون من الأولين والآخرين بمثل خطبه وكلامه؟ وقال أهل الدواوين: لولا كلام علي بن أبي طالب وخطبه وبلاغته في منطقه ما أحسن أحد أن يكتب إلى أمير جند ولا إلى رعيته، ويحق ما قال معاوية لمحفن النبطي لما قال له: جئتك من عند أعي الناس قال معاوية: يا بن اللخناء العلي تقول هذا؟ وهل سن الفصاحة لقريش غيره؟ وبعض البلغاء يسميه فصيح قريش نزل روحي له الفداء يوما من المنبر فقال له أصحابه:
(٦١)