لكن لم يكن عليه القتال مفروضا بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا وهو أمير متبع ورئيس مطاع، ولم يجز أن يكلف بالقتال منفردا، والسر في ذلك أنه لو قاتل وحده لكان السامع بأمره من الناس يجريه مجرى اللص المحارب أو المفسد المشاغب ولم يكن أحد يتوهم أنه مصيب في فعله، ولا يذهب ذاهب إلى رشده في علمه، مع اتفاق الصحابة على التقاعد عن نصرته، وخلود جملتهم إلى خذلانه، ولم يكن الله ليكلف وصي نبيه بما تتسرع العقول لأجله إلى الحكم بخطئه، وتعجل الأفهام بسببه إلى نسبته لارتكاب ما لا يحل له، بخلاف ما إذا نهض لجهاد القوم ومعه جماعة معروفون بالخير والصلاح من خيارا لصحابة يمنعون حوزته، ويجالدون بين يديه، فإن العقول تتسرع إلى اعتقاد إصابته الحق لقيام أولئك الرهط الأخيار دونه وبذلهم الجهد في طاعته وقتال مخالفه، وينضاف إلى ذلك ما يعلمونه من قربه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما طرق أذانهم من أقواله الجميلة فيه، فينشط إلى نصرته من يطلب الحق، ويدنو من إجابته من يحب الصدق، وأقل الأمور أن يكون الناس بين مصوب له وواقف متردد بين الأمرين، إلا أن الأكثر يكونون على تصويبه كما جرى له في أيام خلافته ليسرع إلى نصرته من صوبه، ويقف عن قتاله من تردد في أمره وهو (عليه السلام) طلب الناصر والمعين من ذوي السابقة فما أجابه إلا أربعة أو خمسة مما لا تحصل بهم الكفاية ويقتلون في أول المنازلة، فكان يقول: (لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم) وهذا هو السر في عدم إصغائه إلى قول أبي سفيان بن حرب إذ عرض عليه نصرته لعلمه بأن الغرض لا يحصل بمثله، وهذه الوجوه الثلاثة من جملة الأسرار التي لأجلها أوصاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكف والصبر حتى يجد أربعين رجلا فصاعدا لا أقل من الأربعين، وتخصيص الأقل بالأربعين من الأسرار الغيبية لم أجد إلى معرفتها سبيلا إلا بالظن والتخمين، فعلمه مردود إلى أهله، فليس أمير المؤمنين
(٥٥٠)