من لم يؤدبه الجميل * ففي عقوبته صلاحه قال سهل: فوالله ما أعلمني أني عييت بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ، فما عولت في شكره والثناء عليه، إلا على تقبيل يديه، وباطن رجليه. ثم قال لي: اذهب فقد أحللتك محل يحيى بن خالد، ووهبتك ما ضمته أبنيته (1)، وحوى سرادقه، فاقبض الدواوين، وأحص حباءه، وحباء جعفر لنأمرك بقبضه إن شاء الله. قال سهل: فكنت كمن نشر عن كفن وأخرج من حبس، فأحصيت حباءهما فوجدت عشرين ألف ألف دينار ثم قفل إلى بغداد راجعا، وفرق البرد إلى الأمصار بقبض أموالهم وغلاتهم، وأمر بجيفة جعفر، فنصبت مفصله على ثلاثة جذوع، رأسه في جذع على رأس الجسر مستقبل الفرات (2)، وبعض جسده في جذع آخر في آخر الجسر الأول وأول الجسر الثاني، مما يلي بغداد، قال سهل: فلما دنونا من بغداد، طلع الجسر الذي فيه وجه جعفر لنا أولا، واستقبلنا وجهه، واستقبلته الشمس، فوالله لخلتها تطلع من بين حاجبيه، وأنا عن يمينه، وعبد الملك بن الفضل عن يساره. فلما نظر إليه الرشيد، كأنه قنئ شعره، وطلي بنور بشره، واربد وجهه، وأغضى بصره. قال عبد الملك بن الفضل: لقد عظم ذنب لم يسعه عفو أمير المؤمنين. فقال الرشيد، واغرورقت عيناه حتى لعرفنا الجهش في صدره: من يرد غير مائه يصدر بمثل دائه، ومن أراد فهم ذنبه يوشك أن يقوم على مثل راحلته. علي بالنضاحات (3). قال سهل: فنضح عليها حتى احترقت عن آخرها، وهو يقول: أما والله لئن ذهب أثرك، لقد بقي خبرك ولئن حط قدرك لقد علا ذكرك.
قال سهل: وأمر بضم أموالهم، فوجد من العشرين ألفا (4) التي كانت مبلغ حبائهم اثنى عشر ألف ألف مكتوبا على بدرها صكوك مختومة، بتفسيرها وفيمن حبوا بها، فما كان منها حباء على غريبة أو استطراف ملحة تصدق يحيى بها، وأثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها، وساعات أعطياتها، فكان ديوان إنفاق، واكتساب فائدة، وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وست مئة