ولباب الكرام، وملح الأيام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة أنفس (1)، واكتمال خصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خصالهم كثير أيام من سواهم، من لدن آدم أبيهم إلى نفخ الصور، وانبعاث أهل القبور، حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المراسلين، لما باهت إلا بهم، ولا عولت في الفخر إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورفق ميثاقهم (2)، ومعسول مذاقهم، وسني (3) إشراقهم، ونقاوة أعراضهم، وطيب أغراضهم، واكتمال خلال الخير فيهم إلى ملء الأرض مثلهم، في جنب محاسن المأمون كالنفثة في البحر، وكالخردلة في المهمة القفر. قال سهل: إني لمحصل أرزاق العامة بين يدي يحيى بن خالد في داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة، وهو يعقدها جملا بكفه، إذ غشيته سآمة، وأخذته سنة، فغلبته عيناه. فقال: ويحك يا سهل، طرق النوم شفري عيني، فأظلمت وأكلت السنة خواطري (4)، فما ذاك؟ قلت: طيف كريم، إن أقصيته أدركك، وإن غالبته غلبك، وإن قربته روحك، وإن منعته عنتك، وإن طردته طلبك. فنام أقل من فواق بكية (5) أو نزح ركية (6)، ثم انتبه مذعورا، فقال: يا سهل، لأمر ما كان، ذهب والله ملكنا، وذل عزنا، وانقطعت أيام دولتنا. فقلت:
وما ذاك أصلح الله الوزير. قال: كأن منشدا أنشدني:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر (7) فأجبته عن غير روية ولا إجالة فكر:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر (8)