بين يديه، فتحدثوا ساعة. فقال له ابن المبارك: يا أبا الحسن، أتدري من هذا؟
قال: لا أدري. فقال له: هذا هارون بن محمد الرشيد أمير المؤمنين، فنظر إليه الفضيل بن عياض ساعة، ثم قال: هذا الوجه الجميل يسأل غدا عن أمة محمد ويؤاخذ بها، لئن كان العفو والغفران يسعك مع ما أنت فيه، إن هذا لهو الفضل المبين، وكان الرشيد من أجمل الناس خلقا، وأحسنهم نطقا، وأبلغهم لسانا، وأعذبهم كلاما، وأكثرهم علما وفهما، ثم جعل الفضيل بن عياض يعظه ويخوفه حتى بكى هارون بكاء شديدا. قال ابن المبارك: ما رأيت أحدا يبكي بكاء الرشيد يومئذ، ثم أفاق من بكائه، فجعل الفضيل يذكر مثالبه، ومثالب أهل بيته، ورداءة سيرتهم، وخلافهم الحق، ثم لم يدع شيئا يعيبه به، ولا أمرا ينتقصه فيه إلا واستقبله به. فقال له الرشيد: يا أبا الحسن، أما لك ذنوب تخاف أن تهلك بها إن لم يغفرها الله لك؟ فقال الفضيل: بلى. فقال الرشيد: فما جعلك بأحق أن ترجو المغفرة مني؟ وأنا على دين يقبل الله فيه الحسنات، ويعفو عن السيئات، ومع ذلك فإني والله ما كنت لأخير بين شئ وبين الله إلا اخترت الله تعالى على ما سواه، الله الشاهد على قولي، والمطلع على نيتي وضميري، وكفى به شهيدا. وأنا مع هذا ألي من الاصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ما لا تليه أنت، فما جعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فسكت الفضيل ساعة ثم قال: ما ظلمك من حجك، ثم قام هارون للخروج. فقال الفضيل: يا أمير المؤمنين، إني أخشى أن يكون العلم قد ضاع قبلك كما ضاع عندنا، فقال الرشيد: أجل إنه ما قلت (1). فلما قدم الرشيد العراق كان أول ما ابتدأ فيه النظر أن كتب إلى الأمصار كلها، وإلى أمراء الأجناد، أما بعد: فانظروا من التزم الأذان عندكم، فاكتبوه في ألف من العطاء، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم وعمر مجالس العلم، ومقاعد الأدب، فاكتبوه في ألفي دينار من العطاء، ومن جمع القرآن، وروى الحديث، وتفقه في العلم واستبحر، فاكتبوه في أربعة آلاف دينار من العطاء، وليكن ذلك بامتحان الرجال السابقين لهذا الأمر، من المعروفين به من علماء عصركم، وفضلاء دهركم، فاسمعوا قولهم وأطيعوا أمرهم، فإن الله تعالى يقول: (أطيعوا الله