الشط. فقال: يا سيدي هذا رجل شحاذ وإن قعد معك آذاك، قال الوزير: فلم يلتفت إليه ولقوله، وأمرت الغلمان فأدخلوه فقعد، فلما حضر الغداء دعوته، فكان يأكل أكل جائع بنهامة، إلا أنه نظيف الكل، فلما رفع الطعام، أردت أن يقوم ويغسل يديه في ناحية، فلم يفعل، فغمزه الغلمان، فلم يفعل، فتشاغلت عنه ليقوم، ثم قلت له: يا هذا ما صناعتك؟ قال لي: حائك، فقلت في نفسي:
هذه شر من الأولى، ما ألوم غير نفسي، إذ لم أقبل ممن نصحني، وصرت أواكل الحوكة. فقلت: توضأ يا أخي، فتوضأ، ثم قال لي: جعلت فداك: قد سألتني عن صناعتي، فما صناعتك أنت؟ فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى، وكرهت أن أذكر الوزارة، قلت: اقتصر على الكتابة. فقلت له: كاتب. فقال: إن الكتابة على خمسة أصناف: كاتب رسائل، يحتاج أن يعرف الفصل من الوصل، والصدور ورقيق الكلام، والتهاني والتعازي، والترهيب والترغيب، والمقصور والممدود، وجملا من العربية، وكاتب جند يحتاج إلى أن يعرف حساب التقدير، وشيات (1) الدواب، وحلي الناس ونعوتهم (2). وكاتب قاض، يحتاج أن يكون عالما بالشروط والأحكام، عارفا بالناسخ والمنسوخ من القرآن، والحلال، من الحرام، والفروع والمواريث (3). وكاتب شرطة، يحتاج أن يكون عالما بالجروح والقصاص والديات، فقيها في أحكام الدماء، عارفا بدعوى التعدي.
وكاتب خراج، يحتاج أن يعرف الزرع والمساحة وضروب الحساب (4). فأيهم أنت أعزك الله؟ قلت: فوالله ما قضى كلامه حتى صار أعظم الناس في نفسي وأحبهم إلي، وصار كلامه عندي أشهى من الماء البارد العذب على الظمآن.
فقلت له: أصلحك الله، تقدم إلي، وادن مني أكلمك، وأقعدك المقعد الذي يقعده مثلك، فلولا أن من البر ما يكون عقوقا لأقعدتك مقعدي هذا. قال:
فأخبرني لو كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه، ويكتب إليك في جميع الأسباب، فتزوجت أمه، كيف كنت تكتب إليه؟ تهنئه أم تعزيه؟ قلت: