فلما أتم قراءته قال هارون لفقهاء الحجاز والعراق: هل أنكرتم شيئا من هذا العلم؟ قالوا: ما أنكرنا شيئا إلا ما ذكر من أمر الدماء، والتدمية في القتل، فإن هذا من أنكر ما يكون من العلم وأبطله، يقول الرجل: قتلني فلان فيقبل منه، ويحلف أولياؤه على القاتل خمسين يمينا، ثم يقتل، ولعل أولياءه لم يحضروا، ولم يكونوا بمصر، فيعرض بهم الحنث في الأيمان، فيقبل قول رجل من غيره، وهو لا يقبل في ربع دانق (1) يدعيه إلا ببينة تقوم، إن هذا لهو الضلال (2). وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس حيث قال: " لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء أقوام وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " (3). قال الرشيد: ويحكم، إن في كتاب الله ما يصدق ذلك، ولا إخال أبا عبد الله أخذه إلا من كتاب الله فاستثبتوه. فأرسل إليه فأقبل. فقال هارون: يا أبا عبد الله، إن أصحابنا هؤلاء لم يختلف منهم اثنان في الانكار عليك فيما وضعت في موطئك من التدمية. وتصديق قول من ادعى، وأنت وهم تزعمون بطل دعوى من ادعى على رجل دانقا إلا ببينة تقوم له، فأخبر القوم، وأوضح لهم حجتك في ذلك وأنا معك عليهم، فإني لا أعلم بعد أمير المؤمنين أحدا أعلم منك، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، إن مما يصدق القسامة (4) ما في كتاب الله من القتل، والأخذ بالدم الذي كان في بني إسرائيل.
قال الله عز وجل: (اضربوه ببعضها) [البقرة: 73] فذبحت البقرة، ثم ضربوه بعضو من أعضائها (5)، فحيي القتيل، ثم تكلم. فقال: فلان قتلني، فقتله موسى بن عمران عليه السلام بقوله ذلك، وهو حكم التوراة، فيها هدى ونور