الذي منعك عن رفع ظلامتك إلى أمير المؤمنين، فيقول: لا، والله لا أبغي إلا ما قلت. فيقال له: اذهب بسلام، حتى لربما أتت عليه تارات من الليل، وساعات من النهار لا ينظر في شئ، ولا يأتيه أحد في خصومة لاستغناء الناس عن المطالب، وتعففا من المظالم، ووقاية من سطواته، وتخوفا من عقوبته، وقد وسع العباد أمنه، وأشعرهم عدله، وصارت البلاد المتنائية الشاسعة، كدار واحدة، ترجع إلى حاكم قاض، يرقبه الناس في المواضع النائية عنه كما يرقبه من معه، وقد وضع العيون والجواسيس من خيار الناس، وفضلاء العباد، في سائر الأمصار والبلدان، يحصون أقوال الولاة والعمال، ويحفظون أعمال الأخيار والأشرار، قد صار هؤلاء أعقابا يتعاقبون، ينهض قوم بأخبار ما بلوا في المصر الذي كانوا فيه، ويقبل آخرون يدخلون مسترقين، ويخرجون متفرقين، لا يعلم منهم واحد، ولا يرى لهم عابر، فلا خبر يكون، ولا قصة تحدث، من مشرق الأرض ولا مغربها إلا وهو يتحدث به في الشام، وينظر فيه هشام، قد قصر نفسه على هذه الحال، وحببت إليه هذه الأفعال، فكانت أيامه عند الناس أحمد أيام مرت بهم، وأعفاها وأرجاها، قد لبس جلباب الهيبة على أهل العنود والكيود، وارتدى برداء التواضع إلى أهل الخشوع والسكون، وكان قد حبب إليه التكاثر من الدنيا، والاستمتاع بالكساء، لم يلبس ثوبا قط يوما، فعاد إليه، حتى لقد كان كساء ظهره، وثياب مهنته، لا يستقل بها، ولا يحملها إلا سبعة مئة بعير، من أجلد ما يكون من الإبل، وأعظم ما يحمل عليه من الجمال، وكان مع ذلك يتقللها، وطالت أيامه، واستبطأ صاحب العهد بموته، فناوأه وعاداه، وانتقل عن الموضع الذي كان به هو والوليد بن يزيد بن عبد الملك، فمات هشام والوليد غائب، فأتاه موته، فأمر بقفل الخزائن، فلم يجدوا لهشام ما يكفنونه به، واستؤذن الوليد في إقباله، فلم يدفن هشام حتى قدم الوليد، وذلك في ثلاثة أيام (1).
(١٤٧)