ثم إن دعوى توقف عدم الضد الآخر على عدم عدم الضد الأول مما لا وجه لها، إذ لا توقف له إلا على حصول الصارف عنه. ولو فرض انتفاء سائر الصوارف وتوقفه على تحقق الضد في الخارج - كما هو المتوهم في المقام - كان متوقفا على وجود الضد الأول حسب ما ذكره المصنف، لا على عدم عدمه كما ادعاه، وليس جهة التوقف في المقام ما يظهر من كلامه من: أن وجوده لما كان مستندا إلى عدم الأول كان عدمه مستندا إلى عدم عدمه، بل الوجه فيه على مقتضى التقرير المذكور: كون وجود الضد مانعا من الآخر، فإيجاده قاض بارتفاع الآخر وسبب لرفعه، فيتوقف إذن عدمه على وجود الآخر، لا على عدم عدمه كما ادعاه.
ثم إنه لا يذهب عليك أن ما ذكره الكعبي من الشبهة إن تمت دلت على انتفاء المندوب والمكروه أيضا، لدوران الحكم بناء على الشبهة المذكورة بين الواجب والحرام، وهو غير معروف عنه، فإن خص المنع بالمباح كان ذلك نقضا على حجته، وقد يحمل المباح في كلامه على ما يجوز فعله وتركه، سواء تساويا أو اختلفا، فيعم الأحكام الثلاثة.
لكن ظاهر كلامهم في النقل عنه خلاف ذلك، حيث إنهم ذكروا الخلاف عنه في المبادئ الأحكامية في خصوص المباح، ولم يذكروه في المندوب والمكروه.
ويمكن أن يقال: إن الشبهة المذكورة لا تفضي بنفيهما، إذ أقصى ما يلزم منها وجوب غير الحرام من الأفعال وثبوت التخيير بينها، وذلك لا ينافي استحباب بعضها وكراهة بعض آخر منها، لجريان الاستحباب والكراهة في الواجبات، كاستحباب الصلاة في المسجد وكراهتها في الحمام.
ووهنه ظاهر، فإن الاستحباب والكراهة في المقام لا يراد بهما المعنى المصطلح، وإنما يراد بهما معنى آخر نسبي حسبما فصل القول فيه في محل آخر، فلا بد له من نفيهما بمعناهما المصطلح.
نعم، لو جعل ذلك من قبيل اجتماع الحكمين من جهتين بناء على جوازه صح حملهما على المعنى المصطلح، إلا أنه يجري ذلك بعينه في الإباحة أيضا، فلا وجه للفرق.