هداية المسترشدين - الشيخ محمد تقي الرازي - ج ١ - الصفحة ٢٤٦
لزوم العلم بالعلامة للمستدل فيتوقف علمه بالوضع على علمه بالعلامة المتوقف على علمه بكون المعنى حقيقيا وإن كانت العلامة المعلومة حكم العالم بالوضع بعدم صحة السلب لا حكم المستدل نفسه فظهر أن كون الحاكم بعدم صحة السلب غير المستدل بالعلامة وهو الوجه الأول من الوجهين مما لا أثر له في دفع الدور المذكور.
وأما بقاؤه على الوجه الثاني - وهو الفرق بين العلم بالشئ والعلم بالعلم به وان الأول قد يفارق الثاني والعلم بالعلامة إنما يتوقف على الأول المتوقف على العلم بها إنما هو الثاني فيختلف الطرفان - فلجريانه حينئذ بالنسبة إلى العلم بالعلم، وذلك لأن العلم بالوضع إذا كان علة للعلم بعدم صحة السلب فالاستدلال بثبوت الثاني على ثبوت الأول استنادا في إثبات العلة إلى ثبوت المعلول يوجب توقف العلم بالعلم بالوضع على العلم بالعلم بعدم صحة السلب، ضرورة أن مفاد الاستدلال ومحصله تحصيل العلم بالمدلول بالعلم بالدليل الموصل إليه، ولا ريب أن العلم بالعلم بعدم صحة سلب المعنى الحقيقي يتوقف على العلم بالعلم بكونه معنى حقيقيا لعين ما ذكر من توقف العلم بالأول على العلم بالثاني وهو دور ظاهر، غاية الأمر جريانه حينئذ بالنسبة إلى العلم بالعلم دون العلم نفسه.
فقد اتضح مما قررناه أن الجوابين المذكورين لا يجديان في دفع الدور على الوجه الأول وإنما يندفع بها الدور على الوجه الثاني، والوجه فيه اختلاف جهة التوقف في المقامين فيختلف وجه التفصي عنهما لا محالة.
وأما الجواب عن الدور الأول فقد ذكر المصنف - طاب مرقده - فيه وجهين والصحيح منهما الثاني، وتوضيحه: أن العلم بعدم صحة سلب المعنى الحقيقي إنما يتوقف على العلم باتصاف المسلوب بكونه معنى حقيقيا وإن كان ذلك المسلوب متصورا له على وجه الاجمال، ويكفي فيه تصوره بعنوان أنه معنى حقيقي فيعلم من عدم صحة سلب ذلك المعنى الملحوظ في المجهول على وجه الاجمال عن المعنى التفصيلي الملحوظ في الموضوع كونه عين ذلك المجمل على أحد الوجهين ومندرجا فيه على الوجه الآخر، فيكون الحاصل من العلامة هو العلم بالموضوع له على سبيل التفصيل على أحد الوجهين مع حصول العلم به على وجه الاجمال، بمعنى أن له معنى حقيقيا قبل ملاحظة العلامة وإعمالها، وعلى الوجه الآخر العلم بالاندراج في الموضوع له المعلوم على سبيل الاجمال قبل ملاحظة العلامة بل وبعدها أيضا.
وأما الوجه الأول في الجواب فليس بشئ لأنه إن اعتبر في العلامة علم المستدل بالملازمة بين المعنى الملحوظ، أعني المفهوم من اللفظ حال الإطلاق وبين المعنى الحقيقي عاد الإشكال لتوقف الحكم بعدم صحة سلب المعنى المذكور على العلم بالمعنى الحقيقي، وإن لم يعتبر فيها ذلك لم يدل الحكم بعدم صحة السلب على الوجه المذكور على الحقيقة وإنما مقتضاه كون المبحوث عنه مفهوما من اللفظ حال الإطلاق أو مندرجا في المفهوم منه كذلك، فيكون العلامة المذكورة حينئذ طريقا لإثبات التبادر ولا يكون علامة أخرى مستقلة، كما هو المفروض.
وأما الجواب الثالث المذكور أخيرا فجواب عن الدور الثاني، لأن جهة التوقف المدعى فيه أن عدم صحة السلب معلول للوضع فيتوقف العلم به على العلم بالوضع توقف العلم بالمعلول على العلم بعلته فيجاب بالمنع من ذلك، وأنه قد تحقق العلم بالمعلول ولا يتحقق العلم بعلته، إذا لاحظه العقل ابتداءا وإن تحقق العلم بها بعد ملاحظة العلم بالمعلول، فإن ذلك قضية كونه أمارة عليه إلى آخر ما ذكره رفع مقامه، ومن هنا صح اجرائه الجواب المذكور في صحة السلب أيضا إذ قد عرفت جريان الدور المذكور فيه أيضا، وحيث كان هذا جوابا ثالثا مغايرا للجوابين المذكورين في التبادر صح جوابا عن الدور واقعا له من غير التزام شئ من الوجهين المذكورين، فيجاب به مع التزام توقف العلم بالوضع على الحكم بعدم صحة السلب دون العلم بالعلم خاصة والتزام رجوع المستدل إلى وجدان نفسه في الحكم المذكور دون غيره من العالمين بالوضع.
بقي الكلام في الدور الذي يمكن إيراده في المقام على وجه الإضمار، والحق أنه ملفق من القسمين ومركب من الجهتين، ولذا يختص مورده بالموردين المتقدمين للدور الأول، أعني ما اعتبر فيهما عدم صحة السلب، مضافا إلى مصداق يساوق المعنى الحقيقي ويلازمه كالمعنى المراد من اللفظ حال الإطلاق أو المفهوم منه عند الإطلاق ونحو ذلك، والصحيح في تقريره: أن يقال: إن الحكم بعدم صحة السلب المعنى المراد من اللفظ حال الإطلاق موقوف على العلم بكونه مرادا منه حال الإطلاق لعين ما ذكر في وجه التوقف في الدور الأول، والعلم بكونه مرادا منه حال الإطلاق موقوف على العلم بالوضع لنحو ما ذكر في الدور الثاني فإذا توقف العلم بالوضع على الحكم بعدم صحة السلب المذكور - كما هو قضية جعله أمارة عليه - لزم الدور، وحيث كان التوقف المدعى فيه أولا هو التوقف المدعى في الدور الأول وثانيا هو المدعى في الثاني اتجه اندفاع كل منهما بجوابه المختص به وإن اندفع بدفع أحدهما.
وأما تقرير الدور على الوجه الذي ذكره المصنف (رحمه الله) فليس على ما ينبغي لأنه أشبه شئ بالمغالطات، فإن الحكم بعدم صحة سلب المعنى المراد حال الإطلاق إنما يتوقف على فهم المعنى المراد منه حال الإطلاق بمعنى تصوره كما يقتضيه التعليل على أن يكون الظرف متعلقا بالمراد دون الفهم ولا توقف له على فهم المعنى المذكور من اللفظ، والمتوقف على العلم بالوضع إنما هو فهم المعنى من اللفظ على أن يكون الظرف متعلقا بالفهم، والحاصل أن الفهم الموقوف عليه في المقدمة الأولى هو مطلق الفهم والتصور لا خصوص الحاصل من اللفظ دون مطلق الفهم.
ومما قررنا يظهر ما في كلامه (قدس سره) من أن هذا التقرير في إيراد الدور في المقام نظير ما مر في إيراده على التبادر مشيرا به إلى أن الجواب عنه أيضا نظير الجواب عنه، كيف! ولزوم تحقق العلامة عند المستدل بها كما أشرنا إليه سابقا قاض بلزوم تصور المستدل لمعنى المراد المعتبر في المحمول سواء أراد الاستدلال بها على الوضع وعلى العلم به سواء كان الحاكم بعدم صحة السلب المذكور هو المستدل أو غيره من العالمين بالوضع، فلا الدور المذكور نظير الدور الوارد على التبادر ولا الجواب عنه بالوجهين المذكورين بمجد هنا كما اتضح الوجه في ذلك كله مما قررنا. للشيخ محمد.
أثبتناه من هامش المطبوع - 1.