تعالى (فمنهم من قضى نحبه) يعني عهده (ومنهم من ينتظر) قال يوما فيه القتال فيصدق في اللقاء وقال الحسن (فمنهم من قضى نحبه) يعني موته على الصدق والوفاء ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك ومنهم من لم يبدل تبديلا وكذا قال قتادة وابن زيد وقال بعضهم نحبه نذره: وقوله تعالى (وما بدلوا تبديلا) أي وما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا (إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار) وقوله تعالى (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم) أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب فيظهر أمر هذا بالفعل وأمر هذا بالفعل مع أنه تعالى يعلم الشئ قبل كونه ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم حتى يعملوا بما يعلمه منهم كما قال تعالى (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) فهذا علم بالشئ بعد كونه وإن كان العلم السابق حاصلا به قبل وجوده وكذا قال الله تعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب) ولهذا قال تعالى ههنا (ليجزي الله الصادقين بصدقهم) أي بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه وقيامهم به ومحافظتهم عليه (ويعذب المنافقين) وهم الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه. وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الايمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال (إن الله كان غفورا رحيما).
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25) يقول تعالى مخبرا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية ولو أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد ولكن قال تعالى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) سلط عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب اجتماعهم من الهوى وهم أخلاط من قبائل شتى أحزاب وآراء فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم لم ينالوا خيرا لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله واستئصال جيشه ومن هم بشئ وصدق همه بفعله فهو في الحقيقة كفاعله. وقوله تبارك وتعالى (وكفى الله المؤمنين القتال) أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم بل كفى الله وحده ونصر عبده وأعز جنده ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فلا شئ بعده " أخرجاه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال " اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم " وفي قوله عز وجل (وكفى الله المؤمنين القتال) إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم قال محمد بن إسحاق لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم " فلم تغز قريش بعد ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة. وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح كما قال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني أبو إسحاق قال سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب " الآن نغزوهم ولا يغزونا " وهكذا رواه البخاري في صحيحه من حديث الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق به وقوله تعالى (وكان الله