لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد: يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته، وكذا حب الأب والأم، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل. أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح، فيقول الله: عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة، فلهذا قال: * (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) * بل كأن الكريم الرحيم يقول: عبدي أعطاني كل ما ملكه، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي، وأنا أولى منه بالكرم والجود، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوبا دائما مخلدا، حتى يكون دوامه وخلوده جابرا لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية.
المسألة الثانية: الجزاء اسم لما يقع به الكفاية، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء، فهذا يفيد معنيين أحدهما: أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص والثاني: أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلا، على ما قال: * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) *.
المسألة الثانية: قال: * (جزاؤهم) * فأضاف الجزاء إليهم، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله: * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) * والجواب: أما أهل السنة فإنهم يقولون: إنه لو قال الملك الكريم: من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي، فقوله: * (جزاؤهم) * يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا: في قوله تعالى: * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) * إن كلمة من لابتداء الغاية، فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة. فإن قيل: فإذا كان لا حق لأحد عليه في مذهبكم، فما السبب في التزام مثل هذا الأنعام؟ قلنا: أتسأل عن إنعامه الأمسي حال عدمنا؟ أو عن إنعامه اليومي حال التكليف؟ أو عن إنعامه في غد القيامة؟ فإن سألت عن الأمسي فكأنه يقول: أنا منزه عن الإنتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه، كما روى: " الخلق عيال الله " وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع. فالرحمن أولى. وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك.