فقالوا: لا نذهب حتى تتفحص عن حاله أيضا، فلما نظروا في متاعه استخرجوا الصواع من وعائه والقوم كانوا قد حكموا بأن من سرق يسترق، فأخذوا برقبته وجروا به إلى دار يوسف.
ثم قال تعالى: * (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) * وفيه بحثان: الأول: المعنى ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف، وذلك إشارة إلى الحكم باسترقاق السارق، أي مثل هذا الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف. الثاني: لفظ الكيد مشعر بالحيلة والخديعة، وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا ذكرنا قانونا معتبرا في هذا الباب، وهو أن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض لا على بدايات الأغراض، وقررنا هذا الأصل في تفسير قوله تعالى: * (إن الله لا يستحيي) * (البقرة: 26) فالكيد السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محمول على هذا المعنى. ثم اختلفوا في المراد بالكيد ههنا فقال بعضهم: المراد أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمر يوسف، والله تعالى نصره وقواه وأعلى أمره. وقال آخرون: المراد من هذا الكيد هو أنه تعالى ألقى في قلوب إخوته أن حكموا بأن جزاء السارق هو أن يسترق، لا جرم لما ظهر الصواع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق، وصار ذلك سببا لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه.
ثم قال تعالى: * (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) * والمعنى: أنه كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه عند نفسه بناء على دين الملك وحكمه، إلا أنه تعالى كاد له ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق فقد بينا أن هذا الكلام توسل به إلى أخذ أخيه وحبسه عند نفسه وهو معنى قوله: * (إلا أن يشاء الله) * ثم قال: * (نرفع درجات من نشاء) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ حمزة وعاصم والكسائي * (درجات) * بالتنوين غير مضاف، والباقون بالإضافة.
المسألة الثانية: المراد من قوله: * (نرفع درجات من نشاء) * هو أنه تعالى يريه وجوه الصواب في بلوغ المراد، ويخصه بأنواع العلوم، وأقسام الفضائل، والمراد ههنا هو أنه تعالى رفع درجات يوسف على إخوته في كل شيء.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات، لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة والفكرة مدحه لأجل ذلك فقال: * (نرفع درجات من نشاء) * وأيضا وصف إبراهيم عليه السلام بقوله: * (نرفع درجات من نشاء) * (الأنعام: 83) عند إيراده ذكر دلائل التوحيد والبراءة عن