أقوم لك مقام أخيك في الإيناس لئلا تستوحش بالتفرد. والصحيح ما عليه سائر المفسرين من أنه أراد تعريف النسب، لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة وحصول الأنس، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة، فلا وجه لصرفه عنها إلى المجاز من غير ضرورة.
وأما قوله: * (فلا تبتئس) * فقال أهل اللغة: تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس. وقوله: * (بما كانوا يعملون) * فيه وجوه: الأول: المراد بما كانوا يعملون من إقامتهم على حسدنا والحرص على انصراف وجه أبينا عنا، الثاني: أن يوسف عليه السلام ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافيا مع إخوته، فأراد أن يجعل قلب أخيه صافيا معه أيضا، فقال: * (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) * أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم، ولا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي أقدموا عليها. الثالث: أنهم إنما فعلوا بيوسف ما فعلوه، لأنهم حسدوه على إقبال الأب عليه وتخصيصه بمزيد الإكرام، فخاف بنيامين أن يحسدوه بسبب أن الملك خصه بمزيد الإكرام، فأمنه منه وقال: لا تلتفت إلى ذلك فإن الله قد جمع بيني وبينك. الرابع: روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا يعيرون يوسف وأخاه بسبب أن جدهما أبا أمهما كان يعبد الأصنام، وأن أم يوسف امرأت يوسف فسرق جونة كانت لأبيها فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها. فقال له: * (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) * أي من التعيير لنا بما كان عليه جدنا. والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه) * وقد مضى الكلام في الجهاز والرحل، أما السقاية فقال صاحب " الكشاف ": مشربة يسقي بها وهو الصواع قيل: كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعا يكال به، وهو بعيد لأن الإناء الذي يشرب الملك الكبير منه لا يصلح أن يجعل صاعا، وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها أيضا وهذا أقرب، ثم قال وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب، وقيل: كانت من ذهب، وقيل: كانت مرصعة بالجواهر وهذا أيضا بعيد لأن الآنية التي يسقى الدواب فيها لا تكون كذلك، والأولى أن يقال: كان ذلك الإناء شيئا له قيمة، أما إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا.
ثم قال تعالى: * (ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) * يقال: أذنه أي أعلمه وفي الفرق بين أذن وبين أذن وجهان: قال ابن الأنباري: أذن معناه أعلم إعلاما بعد إعلام لأن فعل يوجب تكرير الفعل قال ويجوز أن يكون إعلاما واحدا من قبيل أن العرب تجعل فعل بمعنى أفعل في كثير من المواضع، وقال سيبويه: أذنت وأذنت معناه أعلمت لا فرق بينهما، والتأذين معناه: النداء والتصويت بالإعلام.