بالعندية أن العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي إقدام هؤلاء الكفار على الإيمان أم لا ليس إلا عند الله؟ ولفظ العندية بهذا المعنى كما في قوله: * (وعنده مفاتح الغيب) * ويحتمل أن يكون المراد أنها وإن كانت في الحال معدومة؛ إلا أنه تعالى متى شاء إحداثها أحدثها، فهي جارية مجرى الأشياء الموضوعة عند الله يظهرها متى شاء، وليس لكم أن تتحكموا في طلبها ولفظ * (عند) * بهذا المعنى هنا كما في قوله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * (الحجر: 21).
ثم قال تعالى: * (وما يشعركم) * قال أبو علي " ما " استفهام وفاعل يشعركم ضمير " ما " والمعنى: وما يدريكم إيمانهم؟ فحذف المفعول، وحذف المفعول كثير. والتقدير: وما يدريكم إيمانهم، أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات فهم لا يؤمنون. وقوله: * (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (إنها) * بكسر الهمزة على الاستئناف وهي القراءة الجيدة. والتقدير: أن الكلام تم عند قوله: * (وما يشعركم) * أي وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال: * (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) * قال سيبويه: سألت الخليل عن القراءة بفتح الهمزة في أن وقلت لم لا يجوز أن يكون التقدير ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال الخليل: إنه لا يحسن ذلك ههنا لأنه لو قال: * (وما يشعركم أنها) * بالفتح لصار ذلك عذرا لهم، هذا كلام الخليل. وتفسيره إنما يظهر بالمثال فإذا اتخذت ضيافة وطلبت من رئيس البلد أن يحضر فلم يحضر، فقيل لك لو ذهبت أنت بنفسك إليه لحضر، فإذا قلت: وما يشعركم أني لو ذهبت إليه لحضر كان المعنى: أني لو ذهبت إليه بنفسي فإنه لا يحضر أيضا فكذا ههنا قوله: * (وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون) * معناه أنها إذا جاءت آمنوا. وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذرا للكفار في طلب الآيات، والمقصود من الآية دفع حجتهم في طلب الآيات، فهذا تقرير كلام الخليل وقرأ الباقون من القراء * (أنها) * بالفتح وفي تفسيره وجوه: الأول: قال الخليل: * (أن) * بمعنى لعل تقول العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا أي لعلك، فكأنه تعالى قال لعلها إذا جاءت لا يؤمنون قال الواحدي: * (أن) * بمعنى لعل كثير في كلامهم قال الشاعر: أريني جوادا مات هولا لأنني * أرى ما تريني أو بخيلا مخلدا وقال آخر: هل أنتم عاجلون بنا لأنا * نرى العرصات أو أثر الخيام وقال عدي بن حاتم: أعاذل ما يدريك أن منيتي * إلى ساعة في اليوم أوفي ضحى الغد وقال الواحدي: وفسر علي - لعل منيتي - روى صاحب " الكشاف " أيضا في هذا المعنى قول امرئ القيس:
عوجا على الطلل المحيل لأننا * نبكي الديار كما بكى ابن خذام