البصر عنه، فهو وإن كان يبصره في الظاهر. إلا أنه لا يصير ذلك الإبصار سببا للوقوف على الفوائد المطلوبة. وهذا هو المراد من قوله تعالى: * (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * فلما كان المعدن هو القلب، وأما السمع والبصر فهما آلتان للقلب، كانا لا محالة تابعين لأحوال القلب. فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر تقليب القلوب في هذه الآية، ثم أتبعه بذكر تقليب البصر، وفي الآية الأخرى وقع الابتداء بذكر تحصيل الكنان في القلب ثم أتبعه بذكر السمع، فهذا هو الكلام القوي العقلي البرهاني الذي ينطبق عليه لفظ القرآن، فكيف يحسن مع ذلك حمل هذا اللفظ على التكلفات التي ذكروها؟ ولنرجع إلى ما يليق بتلك الكلمات الضعيفة فنقول: أما الوجه الذي ذكره الجبائي فمدفوع لأن الله تعالى قال: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * ثم عطف عليه فقال * (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) * ولا شك أن قوله: * (ونذرهم) * إنما يحصل في الدنيا، فلو قلنا: المراد من قوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * إنما يحصل في الآخرة، كان هذا سوأ للنظم في كلام الله تعالى حيث قدم المؤخر وأخر المقدم من غير فائدة، وأما الوجه الذي ذكره الكعبي فضعيف أيضا لأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر، فهو الذي أوقع نفسه ذلك ذلك الحرمان والخذلان فكيف تحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) *.
وأما الوجه الثاني الذي ذكره القاضي فبعيد أيضا لأن المراد من قوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * تقليب القلب من حالة إلى حالة ونقله من صفة إلى صفة. وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك بل القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل، فثبت أن الوجوه التي ذكروها فاسدة باطلة بالكلية.
أما قوله تعالى: * (كما لم يؤمنوا به أول مرة) * فقال الواحدي فيه وجهان:
الوجه الأول: دخلت الكاف على محذوف تقديره فلا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات، والتقدير فلا يؤمنون في المرة الثانية من ظهور الآيات كما لم يؤمنوا به في المرة الأولى، وأما الكناية في * (به) * فيجوز أن تكون عائدة إلى القرآن أو إلى محمد عليه الصلاة والسلام، أو إلى ما طلبوا من الآيات.
الوجه الثاني: قال بعضهم: الكاف في قوله: * (كما لم يؤمنوا به) * بمعنى الجزاء، ومعنى الآية ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى، يعني كما لم يؤمنوا به أول مرة، فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم في المرة الثانية، وعلى هذا الوجه فليس في الآية محذوف ولا حاجة فيها إلى الإضمار.