والقول الثاني: وهو قول المعتزلة أن معنى كونه حقا أنه واقع على وفق مصالح المكلفين مطابق لمنافعهم. قال القاضي: ويدخل في هذه الآية أنه خلق المكلف أولا حتى يمكنه الانتفاع بخلق السماوات والأرض، ولحكماء الإسلام في هذا الباب طريقة أخرى، وهي أنه يقال: أودع في هذه الأجرام العظيمة قوى وخواص يصدر بسببها عنها آثار وحركات مطابقة لمصالح هذا العالم ومنافعه. وثانيها: قوله: * (ويوم يقول كن فيكون) * في تأويل هذه الآية قولان. الأول: التقدير وهو الذي خلق السماوات والأرض وخلق يوم يقول كن فيكون، والمراد من هذا اليوم يوم القيامة، والمعنى أنه تعالى هو الخالق للدنيا ولكل ما فيها من الأفلاك والطبائع والعناصر والخالق ليوم القيامة والبعث ولرد الأرواح إلى الأجساد على سبيل كن فيكون.
والوجه الثاني: في التأويل أن نقول قوله: * (الحق) * مبتدأ و * (يوم يقول كن فيكون) * ظرف دال على الخبر، والتقدير: قوله: * (الحق) * واقع * (يوم يقول كن فيكون) * كقولك يوم الجمعة القتال، ومعناه القتال واقع يوم الجمعة. والمراد من كون قوله حقا في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يقضي إلا بالحق والصدق، لأن أقضيته منزهة عن الجور والعبث. وثالثها: قوله: * (وله الملك يوم ينفخ في الصور) * فقوله: * (وله الملك) * يفيد الحصر، والمعنى: أنه لا ملك في يوم ينفخ في الصور إلا الحق سبحانه وتعالى، فالمراد بالكلام الثاني تقريرا لحكم الحق المبرأ عن العبث والباطل، والمراد بهذا الكلام تقرير القدرة التامة الكاملة التي لا دافع لها ولا معارض.
فإن قال قائل: قول الله حق في كل وقت، وقدرته كاملة في كل وقت، فما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين؟
قلنا: لأن هذا اليوم هو اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع ولا ضر، فكان الأمر كما قال سبحانه: * (والأمر يومئذ لله) * فلهذا السبب حسن هذا التخصيص، ورابعها: قوله: * (عالم الغيب والشهادة) * تقديره، وهو عالم الغيب والشهادة.
واعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب الكامل أنه سبحانه ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرر فيه أصلين: أحدهما: كونه قادرا على كل الممكنات، والثاني: كونه عالما بكل المعلومات لأن بتقدير أن لا يكون قادرا على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ورد الأرواح إلى الأجساد وبتقدير أن لا يكون عالما بجميع الجزئيات لم يصح ذلك أيضا منه لأنه ربما اشتبه عليه المطيع بالعاصي. والمؤمن بالكافر، والصديق بالزنديق، فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة. أما إذا ثبت بالدليل حصول هاتين الصفتين كمل الغرض والمقصود، فقوله: * (وله الملك يوم ينفخ في الصور) *