والمقام الثالث: مناظرته مع ملك زمانه، فقال: * (ربي الذي يحيي ويميت) *. والمقام الرابع: مناظرته مع الكفارة بالفعل، وهو قوله تعالى: * (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم) * (الأنبياء: 58) ثم إن القوم قالوا: * (حرقوه وانصروا آلهتكم) * (الأنبياء: 68) ثم إنه عليه السلام بعد هذه الواقعة بذل ولده فقال: * (إني أرى في المنام أني أذبحك) * (الصافات: 102) فعند هذا ثبت أن إبراهيم عليه السلام كان من الفتيان، لأنه سلم قلبه للعرفان ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ثم إنه عليه السلام سأل ربه فقال: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * (الشعراء: 84) فوجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه في هذا السؤال، فلا جرم أجاب دعاءه، وقبل نداءه وجعله مقبولا لجميع الفرق والطوائف إلى قيام القيامة، ولما كان العرب معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب.
المسألة الثانية: اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله. ففي الذاهبين إليه كثرة. فمنهم عبدة الكواكب، وهم فريقان منهم من يقول إنه سبحانه خلق هذه الكواكب، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها، فهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا: فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب، ثم إن هذه الأفلاك والكواكب تعبد الله وتطبعه، ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع، ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم والفناء، وهي المدبرة لأحوال هذا العالم الأسفل، وهؤلاء هم الدهرية الخالصة، وممن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضا عبدة الأصنام.
واعلم أن هنا بحثا لا بد منه وهو أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام، والدليل عليه أن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا تواريخهم على سبيل التفصيل هو نوح عليه السلام، وهو إنما جاء بالرد على عبدة الأصنام كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا: * (لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) * (نوح: 23) وذلك يدل على أن دين عبدة الأصنام قد كان موجودا قبل نوح عليه السلام وقد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان فإن أكثر سكان أطراف الأرض مستمرون على هذا الدين والمذهب الذي هذا شأنه يمتنع أن يكون معلوم البطلان في بديهة العقل، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري، والعلم الضروري يمتنع إطباق الخلق الكثير على إنكاره، فظهر أنه ليس دين عبدة الأصنام كون الصنم