وفي آخرها بالمدينة، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.
وأما جوابهم الرابع: فضعيف أيضا، لأن قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحى إلي) * يتناول كل ما كان وحيا، سواء كان ذلك الوحي قرآنا أو غيره، وأيضا فقوله في سورة البقرة: * (إنما حرم عليكم الميتة) * يزيل هذا الاحتمال. فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام، وصحة هذا المذهب، وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس رحمه الله، ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرا من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ما استخبثه العرب فهو حرام " وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط، فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه، لما رآهم يأكلون الضب قال: " يعافه طبعي " ثم إن هذا الاستقذار ما صار سببا لتحريم الضب. وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئا، وقد يختلفون في بعض الأشياء، فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون، فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط، بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم؟
المسألة الثالثة: اعلم أنا قد ذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأشياء الأربعة في سورة البقرة على سبيل الاستقصاء، فلا فائدة في الإعادة. فأولها: الميتة، ودخلها التخصيص في قوله عليه الصلاة والسلام: " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد " وثانيها: الدم المسفوح، والسفح الصب. يقال: سفح الدم سفحا، وسفح هو سفوحا إذا سال. وأنشد أبو عبيدة لكثير:
أقول ودمعي واكف عند رسمها * عليك سلام الله والدمع يسفح قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، وعلى هذا التقدير: فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل، وسئل أو مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم. وعن القدري: يرى فيها حمرة الدم، فقال لا بأس به، إنما نهى عن الدم المسفوح. وثالثها: لحم الخنزير فإنه رجس. ورابعها: قوله: * (أو فسقا أهل لغير الله به) * وهو منسوق على قوله: * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) * فسمى ما أهل لغير الله به - فسقا - لتوغله في باب الفسق كما يقال: فلان كرم وجود إذا كان كاملا فيهما، ومنه قوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * (الأنعام: 121).
وأما قوله تعالى: * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) * فالمعنى أنه لما بين في هذه الأربعة أنها محرمة، بين أن عند الاضطرار يزول ذلك التحريم، وهذه الآية قد استقصينا تفسيرها في سورة البقرة. وقوله عقيب ذلك: * (فإن ربك غفور رحيم) * يدل على حصول الرخصة،