أما الجواب الأول: فضعيف لوجوه: أحدها: لا يجوز أن يكون المراد من قوله: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * ما كان يحرمه أهل الجاهلية من السوائب والبحائر وغيرها إذ لو كان المراد ذلك لما كانت الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب داخلة تحته، ولو لم تكن هذه الأشياء داخلة تحت قوله: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * لما حسن استثناؤها، ولما رأينا أن هذه الأشياء مستثناة عن تلك الكلمة، علمنا أنه ليس المراد من تلك الكلمة ما ذكروه. وثانيها: أنه تعالى حكم بفساد قولهم في تحريم تلك الأشياء، ثم إنه تعالى في هذه الآية خصص المحرمات في هذه الأربعة وتحليل تلك الأشياء التي حرمها أهل الجاهلية لا يمنع من تحليل غيرها، فوجب إبقاء هذه الآية على عمومها لأن تخصيصها يوجب ترك العمل بعمومها من غير دليل، وثالثها: أنه تعالى قال في سورة البقرة: * (إنما حرم عليكم) * وذكر هذه الأشياء الأربعة، وكلمة * (إنما) * تفيد الحصر وهذه الآية في سورة البقرة غير مسبوقة بحكاية أقوال أهل الجاهلية في تحريم البحائر والسوائب فسقط هذا العذر.
وأما جوابهم الثاني: وهو أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرما إلا هذه الأربعة.
فجوابه من وجوه: أولها: أن قوله تعالى في سورة البقرة: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) * (البقرة: 173) آية مدنية نزلت بعد استقرار الشريعة، وكلمة * (إنما) * تفيد الحصر فدل هاتان الآيتان على أن الحكم الثابت في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء، وثانيها: أنه لما ثبت بمقتضى هاتين الآيتين حصر المحرمات في هذه الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها، فالقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا، ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ، لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان، فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال: إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال، ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ، وأن القائل به والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل علمنا فساد هذا السؤال.
وأما جوابهم الثالث: وهو أنا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد. فنقول: ليس هذا من باب التخصيص، بل هو صريح النسخ، لأن قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه) * مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة، وقوله في سورة البقرة: * (إنما حرم عليكم الميتة) * وكذا وكذا، تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة، لأن كلمة * (إنما) * تفيد الحصر، فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعا لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتا في أول الشريعة بمكة،