أنا عليه من الكفر، إنما حصل بمشيئة الله تعالى، فلم يمنعني منه، فهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء، وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم، فإذا حملنا الآية على هذا الوجه صارت القراءة بالتشديد مؤكدة للقراءة بالتخفيف ويصير مجموع القراءتين دالا على إبطال قول المجبرة.
الوجه الثالث: في دلالة الآية على قولنا قوله تعالى: * (حتى ذاقوا بأسنا) * وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في ذهابهم إلى هذا المذهب.
المذهب الرابع: قوله تعالى: * (قل هل عندكم من علم فتخرجون لنا) * ولا شك أنه استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدل على أن القائلين بهذا القول ليس لهم به علم ولا حجة، وهذا يدل على فساد هذا المذهب، لأن كل ما كان حقا كان القول به علما.
الوجه الخامس: قوله تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن) * مع أنه تعالى قال في سائر الآيات: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) *. والوجه السادس: قوله تعالى: * (وإن هم إلا يخرصون) * والخرص أقبح أنواع الكذب، وأيضا قال تعالى: * (قتل الخراصون) *.
والوجه السابع: قوله تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة) * وتقريره: أنهم احتجوا في دفع دعوة الأنبياء والرسل على أنفسهم بأن قالوا: كل ما حصل فهو بمشيئة الله تعالى، وإذا شاء الله منا ذلك، فكيف يمكننا تركه؟ وإذا كنا عاجزين عن تركه، فكيف يأمرنا بتركه؟ وهل في وسعنا وطاقتنا أن نأتي بفعل على خلاف مشيئة الله تعالى؟ فهذا هو حجة الكفار على الأنبياء، فقال تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة) * وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه تعالى أعطاكم عقولا كاملة، وأفهاما وافية، وآذانا سامعة، وعيونا باصرة، وأقدركم على الخير والشر، وأزال الأعذار والموانع بالكلية عنكم، فإن شئتم ذهبتم إلى عمل الخيرات، وإن شئتم إلى عمل المعاصي والمنكرات، وهذه القدرة والمكنة معلومة الثبوت بالضرورة، وزوال الموانع والعوائق معلوم الثبوت أيضا بالضرورة، وإذا كان الأمر كذلك كان ادعاؤكم أنكم عاجزون عن الإيمان والطاعة دعوى باطلة فثبت بما ذكرنا أنه ليس لكم على الله حجة بالغة! بل لله الحجة البالغة عليكم.
والوجه الثاني: أنكم تقولون: لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله تعالى، لكنه قد غلبنا الله وقهرناه، وأتينا بالفعل على مضادته ومخالفته، وذلك يوجب كونه عاجزا ضعيفا، وذلك يقدح في كونه إلها.