معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث.
إذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث فله خالق وموجد، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى، ولما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد، وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لا بد من إلهين يكون أحدهما فاعلا للخيرات، والثاني يكون فاعلا للشرور لأن بهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الذي هو الشر الأعظم فقوله تعالى: * (وخلقهم) * إشارة إلى أن تعالى هو الخالق لهؤلاء الشياطين على مذهب المجوس، وإذا كان خالقا لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلا لأعظم الشرور، وإذا اعترفوا بذلك وسقط قولهم: لا بد للخيرات من إله، وللشرور من إله آخر.
والوجه الثاني: في استنباط الحجة من قوله: * (وخلقهم) * ما بينا في هذا الكتاب وفي كتاب " الأربعين في أصول الدين " أن ما سوى الواحد ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محدث، ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث، فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث. وحصول الوجود بعدم العدم، وحينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قررناه، فهذا تقرير المقصود الأصلي من هذه الآية وبالله التوفيق.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * معناه: وجعلوا الجن شركاء لله.
فإن قيل: فما الفائدة في التقديم؟
قلنا: قال سيبويه: إنهم يقدمون الأهم الذي هم بشأنه أعنى، فالفائدة في هذا التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك سواء كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك. فهذا هو السبب في تقديم اسم الله على الشركاء.
إذا عرفت هذا فنقول: قرىء * (الجن) * بالنصب والرفع والجر، أما وجه النصب فالمشهور أنه بدل من قوله: * (شركاء) * قال بعض المحققين: هذا ضعيف لأن البدل ما يقوم مقام المبدل، فلو قيل: وجعلوا لله الجن لم يكن كلاما مفهوما بل الأولى جعله عطف بيان. أما وجه القراءة بالرفع فهو أنه لما قيل: * (وجعلوا لله شركاء) * فهذا الكلام لو وقع الاقتصار عليه لصح أن يراد به الجن والأنس والحجر والوثن فكأنه قيل ومن أولئك الشركاء؟ فقيل: الجن. وأما وجه القراءة بالجر فعلى الإضافة التي هي للتبيين.