رحمة ليعظم له الثواب بالذي يصيبه من البلاء، وليجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم، ليتأسوا به، وليرجوا من عاقبة الصبر في عرض الدنيا ثواب الآخرة وما صنع الله بأيوب. فانحط عدو الله سريعا، فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين من جنوده، فقال: إني قد سلطت على أهل أيوب وماله، فماذا عليكم؟ فقال قائل منهم: أكون إعصارا فيه نار، فلا أمر بشئ من ماله إلا أهلكته قال: أنت وذاك. فخرج حتى أتى إبله، فأحرقها ورعاتها جميعا. ثم جاء عدو الله إلى أيوب في صورة قيمه عليها وهو في مصلى فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري، فجئتك أخبرك بذلك. فعرفه أيوب، فقال: الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزؤان من الحب النقي. ثم انصرف عنه، فجعل يصيب ماله مالا مالا حتى مر على آخره، كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء. حتى إذا لم يبق له مال أتى أهله وولده، وهم في قصر لهم معهم محظياتهم وخدامهم، فتمثل ريحا عاصفا، فاحتمل القصر من نواحيه فألقاه على أهله وولده، فشدخهم تحته. ثم أتاه في صورة قهرمانه عليهم، قد شدخ وجهه، فقال: يا أيوب قد أتت ريحا عاصف، فاحتملت القصر من نواحيه ثم ألقته على أهلك وولدك فشدختهم غيري، فجئتك أخبرك ذلك. فلم يجزع على شئ أصابه جزعه على أهله وولده، وأخذ ترابا فوضعه على رأسه، ثم قال: ليت أمي لم تلدني ولم أك شيئا وسر بها عدو الله منه فأصعد إلى السماء جذلا. وراجع أيوب التوبة مما قال، فحمد الله، فسبقت توبته عدو الله إلى الله فلما جاء وذكر ما صنع، قيل له قد سبقتك توبته إلى الله ومراجعته. قال: أي رب فسلطني على جسده قال: قد سلطتك على جسده إلا على لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره. فأقبل إليه عدو الله وهو ساجد، فنفخ في جسده نفخا أشعل ما بين قرنه إلى قدمه كحريق النار، ثم خرج في جسده ثآليل كأليات الغنم فحك بأظفاره حتى ذهبت، ثم بالفخار والحجارة حتى تساقط لحمه، فلم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام عيناه تجولان في رأسه للنظر وقلبه للعقل، ولم يخلص إلى شئ من حشو البطن، لأنه لا بقاء للنفس إلا بها، فهو يأكل ويشرب على التواء من حشوته، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث فحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن بن دينار، عن الحسن أنه كان يقول: مكث أيوب في ذلك البلاء سبع سنين وستة أشهر ملقى على رماد مكنسة في جانب القرية قال وهب بن منبه: ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له، ولا يقدر عدو الله منه على قليل ولا كثير مما يريد. فلما طال البلاء عليه وعليها وسأمها
(٨٧)